تشكل رواية جاد الدم والغفران، لصاحبه القاص الدكتور إبراهيم مراكشي ، سيرة حياتية واقعية مستنبطة من وحي الواقع بدل وحي الخيال، لعامل بسيط ان هذا العمل الإبداعي موجه إلى فئة النخبة العلمية التي تمازج بين فن السرد و الخطاب و التأويل، وان لم نخطئ فان السذاجة بين إبرام العلاقة الثلاثية (الرجل الملثم، العجوز، المرأة (جوليا)، الأب طوني)، التي زاوج بينها الكاتب في روايته هاته في صبغة تحديد الإجرام وعالم الدعارة و الذكاء، التي عبر عنها القاص بشكل واقعي و أدبي، فني، و ثقافي…..الخ، وذلك من خلال إبراز أهم الإشكالات التي استعصت على المفكرين أو المؤرخين في الوسط الاجتماعي إيجاد حلول ملموسة ومادية ومثالية لواقع لبنان الأليم في ظل الظروف التي لا تستقيم لحياة اللبنانيين ، تحت مسؤولية الطبقة السياسية التي أذلت وسحقت المواطن اللبناني في كرامته وموطنه.
فقبل الغوص في متن أو محتوى أو مضمون الرواية، يجب (الانطلاق)، من حيث البدء ان نقف من حيث ثلاثة منطلقات أساسية : تطرح في حدتها نوعية العنوان في علاقة متكاملية بينه وبين (الغلاف)، ثم الوصول إلى مرحلة (الإهداء) التي هي مفتاح لبوابة الرواية، وان صح القول لاختصار كل ما توصل إليه القاص في حديثه هذا المزيج بين الذكاء، الزنا، الجرم، الأخلاق، و الإبداع …الخ، لجسامة ونوعية المصطلحات الأدبية التي لن تفهم إلا ان كنت قد استطعت بالفعل ان تكون جزء من واقعية مضمون هذه الرواية لكي تنتهي خاتمة الرواية بنوع من التساؤل الذي هو بمثابة عنوان الرواية أو توجه نقذي للقارئ، للبحث عن علل و أسباب وصعوبات القاص أثناء سرده ومحاكته لوقائع يمكن ان تكون لحدث ما عاشه القاص أو انه نابع من وحي الخيال.
– على مستوى العنوان: نجد (جاد) والذي شبهه القاص بذلك الطفل الذي يسكن بضواحي مدينة مكسيكو بالغرفة رقم تسعة كسجن رخيص، والذي هو بمثابة غرفة لا يحج اليها إلى كل طامع وراغب في متعة جنسية زائفة…، أو ذلك النزل الحقير ككاتم صوتي، ليبقى السؤال مطروحا : من هو جاد؟ ومن هو العجوز؟ وما هي العلاقة بين جاد و العجوز؟
فالعجوز هو ذلك الرجل الطاعن في السن، غارق في نومه، يتقلب يمينا ويسارا، ينعم بدفء فراشه الخشن المتسخ. (ص 7)، بمعنى ذلك العجوز المحطم الأحلام، عادته ألا يأتيه النوم من قريب أو من بعيد سوى أن تسقط الشمس من سباتها العميق، لأن الشمس عندما تغور ويسدل الليل فتبدأ معاناة العجوز تخرج من عقالها، كوحش كاسر تحرر من أغلاله، لتشرع الكوابيس في ملاحقته شأن أي جندي متقاعد، يطرد النوم من جفونه، يمضي ليلة بطوله شارد الذهن، مستطار اللب، حزين القلب، مستحضرا خطايا وذكرياته الآثمة، فيصاب بالأرق، وتمتنع الصداع النصفي عن مبارحة رأسه، فالصورة واضحة وبليغة: ” العجوز ضاقت به نفسه و داخله لم يعد يتسع لمزيد من الأحزان”. ص 8
فمن هنا بدأت حكاية “العجوز” في الواقع شارد الذهن، وأفكاره تضرب في بعضها البعض وتتخبط وكأنها تتجول في إحدى البازارات الفارسية، نسبة إلى (أبو فارس)، حيث ظل العجوز على هذه الوضعية يتقلب في بحر الأسس، ويفكر مليا لعل وعسى بفكرة تمر بطيف خياله، لكن عبثا بدون جدوى فكتب على ورقة ناصعة البياض: “اللعنة إيالها من ليلة قاسية “.
فمن لعن العجوز يا ترى هل أفكاره التي لم يستطيع ان يواصل الكتابة بنفس الوثيرة، والذي جعلت قلمه تدريجيا حتى لم يعد بمقدوره ان يضع ولو جملة واحدة، وبالرغم من فقدان العجوز بوصلته في وسط المحيط، بعد ان حطمت العاصفة أعمدتها الشراعية، تناوله لأقراص إضافية من الفاليوم، إضافة إلى الكحول وجرعات الهروبيين كل هذه الأصناف من المخدرات الصلبة والسائلة، إلا ان عقل العجوز يتألم وحده يصرخ، بل يعوي “كذئب جائع”.
– على مستوى الدم: فما علاقة الذئب الجائع بالعجوز؟
اهي رائحة الدم، فما علاقة جاد الدم بالعجوز؟ ايمكننا ان نقول بان القاص قد حاول ان يسرد لنا روايته هاته من وحي قصصي واقعي لعجوز كائب و شارد الذهن في زوبعة من داخل قوقعة جغرافية البيئة التي تسكنها الأرواح الشريرة، كنوع من الأشباح، ككائن إنساني حي قد يمين أو يتقل مرة أحرى، أو يقتات من قارورات وقتا حين ودكاكين الخمر التي تحتويها المائدة وان تعلق الأمر ببوله، ويخيل إليه يطلق النار من أصبعه على الأشباح وهو يصيح: ” لم لا تموتي؟… موتي أيتها الحقيرة “؟ ص 11
فمن هنا بدأت علاقة العجوز بالمراة التي يشير باصبعه نحوها قائلا: اللعنة عليك… اللعنة عليك، ففجأة يجهش بالبكاء كرضيع انتزاع قسرا من حضن امه، يبكي بحرقة مخاطبا نفسه قائلا: ‘ ارجوك الرحمة… الرحمة- لا تتقبلي” ص 12. لكي يصدح مرة اخرى ثم يناجي نفسه وهو يصيح: تسحق الموت… تسحق الموت ايتها اليهودي”، ليتقدم نحو المراة، مخاطبا اياها من زجاج النافذة: ” تستحق الموت… ولا توبة ولا غفران لك”؟
– فما علاقة جاد الدم بالموت والغفران؟ فهل المرأة جزء من الموت أم هي جزء من لا غفران؟
فبالنسبة للعجوز وكل ما يشعر به واقعي وحقيقي… فهي الحقيقة بعينها، فالعجوز له ميول فطرية غريزية نحو القتل، نزاع اليه رغم ان سبق للعجوز ان اخضع ذاته لعلاج نفسي لمدة سنتين، خوفا من ان ينفضح امره اذا ما تسرب ملفه الطبي وصل الى ايدي رجال الامن او الصحافة، نتيجة اغتيال طيبته النفسية بدم بارد.
-واقعية العجوز؟
يكمن المسلسل الدرامي الذي تقلد العجوز في مجريات هذه الرواية في ذاته التي راودته مرارا بفكرة الانتحار، الذي بدأت احداثه من مكسيكو بالرغم من رفض ان يلبي امنيته لان الواقع عاكسه في رغباته، لان القدر اراد له ان يحيا عمرا مديدا ليكون جزءا من عذابه، فهذا هو قدره وهذا هو جزاؤه.
-لماذا اختار العجوز الاقامة في هذا النزل الحقير؟
ان الشيء الذي جعل في واقع الامر، العجوز لا يبالي بمن في الخارج، لسبب بسيط راحة بال جيرانه، حيث كان يردد نفس العبارة، بنفس المرارة والتكرار:” تستحق الموت… ولا توبة و لاغفران”؟
-كيف لهذا العجوز ان يظل على قيد الحياة؟
اجابه العجوز بنبرة من التفاؤل والذكاء قائلا: ” من ثلاثة الى ستة اشكر كحد اقصى”، حيث نظر اليه ذلك الرجل الملثم الذي وضع مسدسه على رد جبهة العجوز بوجه يبوح بالعديد من الاستفسارات عدة، ثم واصل العجوز حديثه قائلا: ” عمرك الحقيقي هو ما بقي منه، وليس الذي فات …. عمرك الحقيقي هو ما تبقى لك لكي تعيشه، فالذي فات قد مضى، فلا تندم عليه، المهم القادم”.
حيث تدخل الأب طوني، وقال لجاد: ” الدم يولد الدم” ، والحقد يطفئه الغفران…”، فقد علمنا رئيس السلام بأن ( التسامح) يا ولدي، كان من صفات أبناء الله الداعين الى السلام، ثم ردد على مسامعه ما قال يسوع المسيح في انجيل يوحنا : ” سلاما أترك لكم، وسلامي اعطيكم، لا كما يعطيه العالم اعطيكم أنا، فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع “. (ابراهيم مراكشي ” جاد الدم والغفران ص 38)
فهذا النص لم يأخد من كتاب (وحي البرلمان) كما سماه ذات يوم وزير العدل الحالي، والذي قام بتقديمه شيخ بيد الله كرئيس مجلس المستشارين (سابقا)، ولا من رواية (الموتشو) لصاحبه حسن أوريد، أو من رواية (الخبز الحافي) لصاحبة محمد شكري، ، بل أخد من وحي الخيال الممزوج بشيء من الواقعية العلمية في تشخيص معاناة طفولة إنطفئت آمالها و أحلامها بين المشرق والمغرب في عز نكبة التي لن يخمد لهيبها إلا بالثأر لمقتل ….. أحلام مستقبل “!.
ففي حقيقة نبرة الإبداع بنبل الفكر و الثأر الذي جسده القاص في إبداعه الأدبي هذا يعطينا شيء جميل من الجوهر، ان طبيعة الفكر مجرد نور ينير طريق الظلام، لكون النور مجرد أسطورة تنتجها كوابس الإبداع الفكري المذمر والغير مسؤول لواقع مجتمع حائر بين زنا المحارم ومعاناة شباب بين هواجس الحب والانتقام، إلا أن قصة وذكريات العجوز كلها رؤى مستنبطة من وحي الواقع الذي يعيشه اللبنانيين لظروف مجتمعية قاسية خلقتها طبيعة الطبقات السياسية الغير مسؤولة، بناء على طبقة الترقيم التي نلمسها أثناء فهمنا المتواضع الذي بدأه القاص في سرده هذا كزنزانة تعطينا أرقام بدل عناوين كتشبيه كنوع من الدرامية التي تعالج معاناة مجتمع عنى مرارة الويلات والحروب و لاغتصاب والاكتئاب بدون أمال ولا طموح لغد أفضل.
ألهذا تكون مأساة معاناة فكر منطلقها جزء من سيرة دولة من مشارقها إلى مغاربها أم هي جزء من أسطورة لنظام تفاهة نعيشه في زمن قلة الإبداع وتدني الوعي أم أن أسطورة زيف الحقيقة مرتبطة بخونة الحقيقة التي لا نلمسها إلى في رؤى وتصورات لحدث واقعي عايشنا بائعين مخافة لنظرة واقعية مرئية بكل الإحساس وبنفس الشعور. مصدقا لفكرة كرد على جرعة وعى ضد الرداءة والتفاهة لصاحبها (الصادق النهيوم) : ” الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة تموت نتيجة تناول الدواء الخاطئ “.حيث أهداكم جاد هذه العبارة في بداية مؤلفه والتي وجهها ” إلى كل قارئ، لا تكن مثل جاد، وإياك وأن تتعاطف مع العجوز”.
كما إختتم عمله الروائي بنتيجة لعلها تكون خاتمة لما إستوحاه من وحي التشخيص السردي الواقعي لمعاناة طفل، والذي عبر عنه ضمن مضمون هذا العمل القيم الذي انصح به جل المهتمين باقتنائه وقراءته بتمعن، وبتوصيف نقدي خالي من الاحكام القيمية والمسبقة، والتي إعتبر فيها :” بإن الهزيمة إمتحان، والنصر إمتحان، بل الدنيا كلها إختبار، والفوز بالنهاية هو أكبر انتصار “. فهل فاز جاد على العجوز؟ من الفائز ومن المنتصر في نهاية المطاف؟
ليبقى التساؤل مطروحا: هل فعلا يستحق هذا الرجل أن يدفن بشكل لائق، كما قالت الفتاة لجاد أم عبارة الموت والدفن والعجوز مرتبطة بالنسيان لما يطبعها من غبار داخل خزانة فكرية التراب؟.
المصدر : https://alwadih24.com/?p=24552
عذراً التعليقات مغلقة