الرقم 2

الواضح24
2021-11-13T18:54:49+00:00
كُتّاب وآراء
الواضح2413 نوفمبر 2021آخر تحديث : السبت 13 نوفمبر 2021 - 6:54 مساءً
الرقم 2
أحمد الجوهري

يحكي لي جدي رحمه الله، أن القدر اختاره ليشتغل عاملا بالمكتب الشريف للفوسفاط، بل حمل الرقم 2 ضمن تسلسل عدد العمال الذين اشتغلوا مع بداية اكتشاف الفوسفاط، حدثني ذات يوم ولازلت أحتفظ بحكايته التي استقبلتها ذاكرتي وآمنتها من النسيان، إلى الحد الذي لا أجهد فيه الذاكرة وأنا أسترجع الماضي الذي احتضن حكاية الجد الذي سردها لحفيده وهو لا يدري أن كلامه لن يكون عابرا للحظة، وإنما سيصل إلى محاولة الإمساك بمكونات الحكاية وعناصرها الدقيقة.

قال رحمه الله أن بداية اشتغاله في قطاع الفوسفاط كانت دون ترسيم، وذات مساء نال منه التعب والعياء وبلغ به التذمر بسبب الأعمال المضنية التي يتطلبها استخراج الفوسفاط، إذ لم تكن آنذاك آليات الاستخراج أو الشحن فقط السواعد وما ملكت الأجساد من عضلات، فقرر الانقطاع عن العمل، وعدم مواصلة الاشتغال وفق نظام مجهول، في اليوم الموالي خرج إلى العمل، وفي نيته أنه سيكتفي بالاعتذار للمهندس الفرنسي الذي كان يشرف على عملية الإنتاج ومن تم الانصراف، إلا أنه تفاجأ عند حلوله بالمنجم بأن إدارة الفوسفاط ستمنح العاملين حقهم الشرعي وهو الترسيم، لتتم المناداة على العامل الأول الذي منح له الرقم 1، متبوعا بصاحب هذه الحكاية الذي حمل الرقم 2، مما يعني بأن هذا الأخير وباقي رفاقه هم من وضعوا أولى لبنات قطاع خذل أبناءه قبل أن يخذل المنطقة برمتها.

رحل صاحب الحكاية ورفاقه إلى دار البقاء، بعدما ظلوا يعانقون صمت سنوات تقاعد هش برواتب هزيلة لا يتسلمونها إلا بعد انقضاء ثلاثة شهور، وبعدما رجعوا إلى أمنا الأرض حيث الأصل تركوا تاريخا كتبوه بقلم الرصاص، وأرامل يستعطفن أيام الشهر للإسراع حتى يظفرن بمعاش ظل يحافظ على رشاقته، رحل أفراد فريق لويس جاونتي وتركوا بيوتا أهون من بيت العنكبوت.

لا يمكن لمن عاش سنوات التقاعد المسموم بهزالة الراتب التي عاشها الأولون بعمقها القاسي، أن يتصور فصولها الرهيبة، لأنهم كانوا مجبرين على تدبير راتب التقاعد الشهري لمدة ثلاثة شهور، قبل الانتظار في طوابير طويلة أمام إدارة المكتب الشريف لسحب الراتب الذي كان يصادف كل مرة فصلا من فصول السنة الأربعة، حيث كان يختبأ بعض المتقاعدين الغارقين في الكريدي أو يتنكرون في جلاليب كي لا تضبطهم أعين التجار الذين كانوا يتربصون بالمتقاعدين لاستخلاص ديونهم من أولئك الذين لم يحسنوا تدبير أجورهم على مدى ثلاثة أشهر فاختلت لديهم الموازين.

وصاحب الحكاية رحمه الله واحد من الجيل الأول الذي صممت إدارة الفوسفاط بتجاهله المستديم أن تضعهم في وضع غريب، وهذا الجيل لم يكن يطيق المذلة حتى لو أتت من سادة الأشراف، لم يؤسسوا جمعيات تتكلم وتسترزق بأسماء المتقاعدين، وإنما فضلوا الاعتمار داخل صمت شريف وهم يعيشون المتاه في آخر الحياة بعد سنوات العمل الشاق في المناجم التي وجدتها الآليات الحديثة جاهزة بفضل السواعد، رحل صاحب هذه الحكاية إلى دار البقاء مثلما رحل رفاقه الذين اجتثوا أول صخرة وحفروا أول حفرة، ولم يتركوا إقامات فاخرة، وإنما تركوا أبناء جعلهم تجاهل إدارة عزلا، فتبا لقطاع أخذ من عماله، ولم يعطيهم غير ما هو سلبي.

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة