ابراهيم المراكشي يكتب : أضواء على الجوانب الاقتصادية من أزمة كوفيد-19 على المغرب

mohssine.elja
2020-08-23T16:14:15+00:00
كُتّاب وآراء
mohssine.elja23 أغسطس 2020آخر تحديث : الأحد 23 أغسطس 2020 - 4:14 مساءً
ابراهيم المراكشي يكتب : أضواء على الجوانب الاقتصادية من أزمة كوفيد-19 على المغرب
إبراهيم مراكشي أستاذ جامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة

إن الأزمة التي باتت تهدد الاقتصاد المغربي بشبح الركود هي نتيجة التدابير التي اتخذتها الحكومة للحد من انتشار وباء كوفيد-19. عنوان هذه الأزمة يتلخص في عبارة واحدة: “وظائف مفقودة… شبح الركود الاقتصادي “. 

الأزمة التي بدأت صحية سرعان ما خطفت الأنظار بعد أن تحولت إلى أزمة اقتصادية، تزداد قمة هرمها حدة كلما طال أمد الجائحة. في البداية، راهنت الحكومة على فترة ثلاثة أشهر، بعد ذلك اتضح بالملموس أن هذه الأزمة ستطول أكثر من المتوقع، والأكيد أن حلها ليس بيد المغرب، لكن بيد الدول المتقدمة التي بمقدور مختبراتها أن تتوصل إلى لقاح فعال. حتى وإن اكتشف اللقاح فإن تداعيات هذه الأزمة على الاقتصاد الوطني ستستمر لسنوات بعد ذلك؛ بمعنى آخر أن الاقتصاد المغربي لن يستعيد عافيته إلا بعد انقضاء فترة زمنية ليست بالهينة، علما أن هذا الاقتصاد لم يكن يوما في صحة جيدة.

لقد أعاد هذا الفيروس تذكيرنا بالحقيقة المرة، وهي أن لا عدو أخطر يتربص بنا أكثر من تربص المغربي بنفسه. وهذا ما تطرق له الخطاب الملكي الأخير لذكرى 20 غشت.

اقتصاديا، كان لتفشى الذعر في صفوف المواطنين تكلفته، إذ زاد الشعور بالخوف ممزوج بالقلق تجاه مستقبل مظلم. لقد تضاعف الخوف وتعاظم من الإصابة بالفيروس، يقابله تهاون غير منطقي في إجراءات السلامة؛ علاوة على هذا الخوف، أصبح المغربي يخاف من فقدان مصدر رزقه. سنرى أن لعدم الأمان المالي الذي بات يشعر به معظمنا تداعيات سلبية على الاقتصاد الوطني.

فلأول مرة يشهد المغرب هذا التوقيف الجماعي عن العمل لمئات الآلاف من الأشخاص. الشارع العام لا حديث له سوى عن فقدان عزيز أو فقدان أحدهم لمنصب شغل. في ظل هذه الظرفية، ما المطلوب من المواطن؟

المطلوب منه التكيف مع الوضع الجديد، وأن يكون عنصرا مساهما، إلى جانب الدولة، مساعدا لها في إيجاد الحل، لا طرفا معيقا.

للحد من تفشي الوباء وحصره، لم يكن أمام الحكومة خيار آخر غير تعليق العمل بالمصالح الحكومية والإدارات العمومية، إغلاق المصانع والمقاولات، وإغلاق المحلات التجارية والمقاهي، وحظر تجوال الأفراد وإغلاق الحدود وتعليق حركة الطيران المدني، إلخ. وهي إجراءات كانت فعالة في حينها، أتت أكلها، خصوصا خلال الثلاثة أشهر الأولى، لكن نتائجها كانت وخيمة على الاقتصاد الوطني. ليس أدل على ذلك توقع بنك المغرب تراجعا في الاقتصاد بـ 5,2℅، وهو أكبر تراجع سيسجله الاقتصاد الوطني منذ سنة 1990.

في الواقع، العديد من القطاعات الاقتصادية تضررت أو شلت مؤقتا إما بشكل كامل أو جزئي. على رأس القطاعات الأكثر تضررا نجد تلك المرتبطة بالصناعة والسياحة والصناعة التقليدية، دون أن ننسى قطاع الخدمات، وتحديدا المطاعم والمقاهي.

113 ألف شركة صناعية تأثرت من الأزمة بشكل متباين حسب حجمها وطبيعة نشاطها، لكن جميعها اضطرت للتوقف عن العمل مؤقتا. فحسب المندوبية السامية للتخطيط، 49,8℅ من هذه الشركات أقدمت على تخفيض من عدد العاملين غير المؤهلين لديها، بينما أقدمت 9.6℅ على تسريح العمال بشكل دائم. هذه المعطيات وضعت ما لا يقل عن 700 ألف عامل في القطاع الصناعي على المحك، وضعتهم في وضعية التوقف عن العمل. في هذا الجانب تحديدا، يتوقع أن يخسر الاقتصاد الوطني ما بين 80℅ و90℅ من الناتج الوطني المرتبط بالقطاع الصناعي.

أما القطاع السياحي الذي سجل سنة 2019 رقما قياسيا فاق 13 مليون سائح، فقد شل تماما. بمعنى آخر، أن هذه السنة ستكون سلبية، سيخسر خلالها المغرب 90℅ من الناتج الوطني المرتبط بهذا القطاع. هذه الوضعية التي يعيشها القطاع السياحي وضعت 750 ألف عامل في وضعية بطالة مؤقتة.

إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه المعطيات سنصل إلى ما لا يقل عن مليون مغربي، لا يمكن وصفهم رسميا في وضعية بطالة، لكن في وضعية توقف مؤقت عن العمل. الخبراء في الاقتصاد يعلمون جيدا أن نصف هذه الوظائف قد فقدت ولن تعود أبدا؛ والسبب في ذلك يعود إلى إفلاس عدد مهم من الشركات وعدم قدرتها على العودة لاستئناف نشاطها. وهذا يعني بصيغة أخرى، أن مليون و292 ألف عاطل حاليا، سينضاف إليهم نصف مليون آخر. إنها مسألة وقت، لا غير.

أكيد أن خطط الحكومة التي وضعتها لمواجهة آثار الجائحة قد أخذت بعين الاعتبار هذه المعطيات، لكن هل هي قادرة على حماية الاقتصاد الوطني وتحفيزه حفاظا على الوضع التشغيلي؟ لأن ما يهم في هذه الظرفية هو الحفاظ على مناصب الشغل وعدم فقدانها.

الحكومة تدرك جيدا أن هذا التوقف المؤقت عن العمل أو الدائم له تبعاته. بصيغة أخرى، بالنسبة للحكومة الوظائف التي سيتم استرجاعها بسرعة لن تثير أية مشاكل، في المقابل يتعين عليها أن تجد الآليات المحفزة حتى تسرع من وتيرة استرجاع القطاعات المتضررة عافيتها، ومعها كذلك الوظائف التي فقدتها. وهذه العملية ستستغرق سنوات قبل أن تؤتي ثمارها، وقدرا كبيرا من التضامن المجتمعي، ومع ذلك فنتائجها غير مضمونة، لارتباطها بعوامل خارجية لا تتحكم فيها الحكومة (الظرفية الدولية). الخطر الذي يهدد الاقتصاد الوطني بشبح الركود يتعلق بهذا الصنف من الوظائف، إضافة إلى الوظائف التي فقدت بسبب هذه الجائحة والتي لن تعود أبدا.

في كل الأحوال، الحكومة، ومنذ ظهور الجائحة، وهي في مأزق كبير بين المطرقة والسنديان. ذلك أن ارتفاع معدل البطالة إلى مستويات قياسية يهدد اقتصاد البلاد بالدخول في حلقة دورية مفرغة من الركود الاقتصادي. العد العكسي لهذه الأزمة قد انطلق بالفعل منذ أشهر. كيف ذلك؟ 

بدأت هذه الحلقة المفرغة بفقدان الاقتصاد المغربي لجزء من مناصب الشغل، التي كانت متوفرة، نتيجة تنفيذ إجراءات الحجر الصحي؛ هذا دون احتساب المناصب التي كان ينتظر أن يوفرها القطاع الخاص والتي خسرها الاقتصاد الوطني بسبب الجائحة، والتي تقدر حسب المندوبية السامية للتخطيط بـ 520 ألف منصب شغل بالوسط القروي و69 ألف منصب بالوسط الحضري.

فقط إلى حدود متم شهر أبريل الماضي، تم التصريح بتوقيف ما يزيد عن 900 ألف أجير بشكل مؤقت. إن التسريح المؤقت لهذا الكم الهائل من المستخدمين والعاملين دفعة واحدة كان له وقع سلبي على الإنفاق الاستهلاكي الخاص الذي تراجع، نتيجة انخفاض كتلة الأجور. فعندما يقل الدخل أو ينعدم ينخفض معه إنفاق المواطن، وبالتالي فإن الطلب على السلع والخدمات يقل بدوره، مما يؤدي إلى انكماش في السوق الداخلي وتراجع في مداخيل الشركات، فتضطر هذه الأخيرة إلى تسريح جزء آخر من موظفيها، وهكذا تستمر العملية في حلقة دائرية مفرغة، مما يعيق مسيرة تعافي الاقتصاد. إن تراجع الانفاق الاستهلاكي يشكل أيضا سببا رئيسيا في فقدان خزينة الدولة لجزء مهم من مداخيلها الضريبية، بما يعني ذلك من اختلال في وظائف الجولة وعجزها عن القيام بأمورها المعتادة.

بصيغة أخرى، الانفاق الاستهلاكي الخاص هو المحرك الأهم للاقتصاد، انخفاضه يخنق الاقتصاد، والعكس صحيح؛ كما أنه يعد مؤشر على ثقة المستهلكين في اقتصاد بلادهم. لذلك نجد الحكومات في مختلف دول العالم قد بادرت إلى تبني مخططات تحفيزية للحفاظ على الوظائف من أجل دعم اقتصادها على الصمود. فهذه بريطانيا مثلا قررت حكومتها أن تتحمل 80℅ من رواتب العمال الذين لا يستطيعون الذهاب إلى العمل على خلفية تفشي الفيروس، وذلك في حدود راتب شهري لا يتجاوز سقفه الأقصى 2500 جنيه إسترليني. جميع حكومات العالم لها هاجس واحد، ألا وهو عدم تراجع الانفاق الاستهلاكي. ومدخل ومخرج هذا الأخير، هو الحفاظ على الرواتب. والحكومة المغربية يجب عليها ألا تخرج عن هذا السياق، بل وهذا ما تضمنه التوجيهات الملكية في خطاب العرش الأخير بخصوص إنعاش الاقتصاد، والتي تستهدف في جوهرها تحفيز الانفاق الاستهلاكي. 

لذا فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: طيف يمكن للحكومة أن تحافظ على التشغيل ضمن المستويات التي تسمح بعدم توقف عجلة الاقتصاد عن الدوران؟

هذا فيما يتعلق بوظائف القطاع الرسمي. نشير إلى أن هذا القطاع، وتخوفا من تراجع الانفاق الاستهلاكي بادرت الحكومة المغربية إلى أن تخصيص العاملين به بإعانة مالية مدة ثلاثة أشهر-دون أن تصل إلى مستوى دخلهم الشهري-. لكن كيف تمكنت هذه الفئة من الصمود بعد انقضاء فترة الثلاثة أشهر؟ 

الفضل في ذلك يعود إلى مدخراتهم ومتانة تضامن أسرهم. في هذا الإطار، ينبغي الانتباه جيدا إلى كون فيروس كورونا التاجي قد زاد من تآكل الطبقة الوسطى التي تستنزف حاليا ما تبقى من مدخراتها، وزاد من تفقير الطبقة الفقيرة، التي تعيش عموما على الاقتصاد غير المهيكل.

تعد هذه الفئة الأخيرة الأكثر تضررا من إجراءات الحجر الصحي، ومشكلتها أن دخلها غير مستقر ويتباين من يوم لآخر، فما تكسبه باليد اليوم تنفقه غدا باليد الأخرى، وبالتالي لا توفر على أية مدخرات تمكنها من الصمود في حالة التوقف المفاجئ عن العمل؛ إضافة إلى كونها محرومة من الاستفادة من خدمات الرعاية الصحية، أو من القروض البنكية لتنمية مصادر دخلها.

منعها من ممارسة أنشطتها بشكل مفاجئ، وبالأشهر، جعلها تواجه صعوبات جمة في توفير أبسط المستلزمات المعيشية الأساسية. وهذا ما يفسر سبب خروجها للاحتجاج بين الفينة والأخرى، في مدن طنجة وفاس والدار البيضاء. إن الخطاب الملكي في الذكرى الحادية والعشرين لعيد العرش واضح في هذا الشق تحديدا، فتعميم التغطية الصحية ينبغي أن يستهدف إدماج القطاع غير المهيكل في صلب النسيج الاقتصادي الوطني.

وعلى العموم، فإن هذه الفئة تحديدا، هي التي وجدت صعوبة في احترام إجراءات الحجر الصحي، والتقيد بها. لنكن واضحين، يستحيل أن يلتزم من ثلاجته فارغة بإجبارية الحجر الصحي، بالأحرى أن يلتزم بقواعده. فيما يتعلق هذا الجانب، نخلص إلى كون هذه الجائحة قد عرت الفقر والاقصاء من جميع المساحيق الرسمية، وكشفت بالملموس عن هشاشة الطبقة الوسطى وتآكلها بتفقيرها، وقبل ذلك عن زيف المعطيات الرسمية المتعلقة بالفقر. 

لم ينتبه الكثيرون إلى كون فيروس كوفيد-19 سيؤدي لا محالة إلى ارتفاع معدلات الفقر، فما تشهده البلاد حاليا هو أكبر عملية انتقال للمال في تاريخه، من جيوب الفقراء والطبقة الوسطى إلى جيوب قلة من أثرى الأثرياء. فعن طريق استنزافهم لمدخراتهم تصل هذه الأموال بواسطة عمليات جد معقدة لملكية الأبناك، ونحن نعلم جيدا من يملك البنوك في المغرب.

من هي الجهة الوحيدة القادرة على كسر هذه الحلقة المفرغة التي يدور فيها الاقتصاد الوطني؟ إنها الحكومة، وبالتالي فتدخلها ضروري. في ظل الأزمات ينبغي وضع آليات اقتصاد السوق على جنب، وأن تتدخل الدولة بشكل مباشر لتعزيز الانفاق الخاص حفاظا على الوظائف.

الاقتصاد العالمي سيشهد انكماشا غير مسبوق، يصعب تحديد مدته وسقف مضاعفاته، لكن الأكيد أن تداعياته وخيمة على الاقتصاد الوطني على مستويين: تراجع في الاستثمارات الأجنبية وتراجع في الصادرات. اقتصاد المغرب مرتبط ارتباط عضوي باقتصاد شركائه في الاتحاد الأوروبي. فهذا الأخير يمتص 58℅ من صادرات البلاد، ويمثل 59℅ من استثماراته الأجنبية المباشرة، و70℅ من سياحه، وبالتالي فإذا كانت أوروبا في أزمة، فإن صداها قد وصل إلى المغرب. لقد بات في حكم المؤكد أن الطلب الدولي على الصادرات المغربية كالنسيج والملابس والسيارات والمعادن سيتراجع بشكل كبير، الشيء الذي ينبأ بتفاقم العجز التجاري؛ كما أن القطاع السياحي لن يسترجع عافيته إلا على المدى المتوسط، بل وسيتطلب استرجاع عوامل الثقة بين الفاعلين الوطنيين والشركاء الدوليين وقت طويل.

الاقتصاد المغربي يسجل خسائر فادحة، ستترجم بتراجع في ناتجه الوطني الخام. في هذا الإطار، المغرب جزء من المنطقة العربة، وفي التقرير الصادر عن البنك الدولي في 7 يونيو 2020، توقع خسارة اقتصاديات الدول العربية لـ 323 مليار دولار، أو ما يعادل 12℅ من ناتجها الوطني الخام. من هذه الزاوية تحديا يفهم لم سيضخ المغرب 120 مليار درهم في الاقتصاد الوطني، أي ما يعادل 11℅ من الناتج الداخلي الخام، وهي قيمة الخسائر التي يتوقع أن يسجلها الاقتصاد المغربي.

 إن استرجاع القطاعين الصناعي والسياحي لعافيتهما، يتطلب أن يشتغل الاقتصاد المغربي بكامل طاقته لمدة لا تقل عن الثلاث سنوات، وبمعدل نمو سنوي لا يقل عن 3℅، حتى يتم تغطية هذه الخسائر. وفي الحقيقة، لم يسبق يوما أن اشتغل الاقتصاد المغربي بكامل طاقته (100℅)، وبالتالي يتوقع أن يحتاج اقتصاد المغرب إلى ما لا يقل عن الخمس سنوات حتى يسترجع الوضعية التي كان عليها سنة 2019. لهذا حدد الخطاب الملكي الأخير لعيد العرش سقف خمسة سنوات كأجل لتعميم التغطية الاجتماعية على جميع المغاربة، باعتبارها المدة التي يتوقع أن يستغرقها استرجاع الاقتصاد المغربي لعافيته. في انتظار ذلك ما هو الحل الآني الذي بيد الحكومة؟

المفتاح السحري يتجسد في كلمة واحدة تدعيم السوق الداخلي. قوة الولايات المتحدة الأمريكية تتجلى في قوة سوق استهلاكها الداخلي التي تستهلك 90٪ مما تنتج مصانعها، في حين أن الصين الشعبية بمليار و400 مليون نسمة لا يستهلك سوقها الداخلي سوى 10٪ من إنتاجها. 

في ظل هذه الأزمة، رهان الحكومة ينبغي أن ينصب على حماية السوق الداخلية وتشجيع استهلاك المنتجات الوطنية حفاظا على الوضع التشغيلي بالمصانع، على الأقل في حدودها الدنيا. في هذا الإطار، ينبغي تدعيم المقاولة الوطنية وتحسين قدرتها التنافسية، وتأهيلها ليتناسب انتاجها مع حاجيات المستهلك المحلي، دون إغفال قطاع الخدمات، الذي يجب أن يحظى بدوره بالدعم الحكومي، لأنه مصدر تشغيل نسبة مهمة من اجمالي القوى العاملة بالمغرب. غير أن هذه العملية برمتها تبقى رهينة لعوامل شتى: نمط وثقافة الاستهلاك، كتلة الأجور، المستوى الاجتماعي، مراقبة الأسعار وضبطها، الإعلام، التسويق، الاقتراض، التضخم، نسبة الفائدة، إلخ.

الحكومة لا تروم الرفع من الانفاق الاستهلاكي، وذلك نظرا للعوامل الآتية دكرها. فمن جهة، تتعرض الحكومة لضغوطات كبيرة يمثلها مئات الآلاف من العمال في وضعية التسريح المؤقت؛ ومن جهة أخرى، ليس في مقدورها أن ترفع من كتلة الأجور، ولا أن تخلق مناصب شغل جديدة. فكل ما تهدف إليه الحكومة في ظل هذه الأزمة هو أن يسترجع الانفاق الاستهلاكي مستوياته التي كانت قبل الجائحة. هذا هو التحدي الأكبر، وإن حققته فسيعد أكبر إنجاز يحسب لها.

إن أزمة كوفيد-19 تشكل فرصة ذهبية ليصحح المغرب من مساره ويعيد حساباته للنهوض بجملة من القطاعات الاقتصادية. وعلى رأس هذه القطاعات، نجد القطاع الفلاحي الذي شهد، بسبب الجائحة، انكماشا غير مسبوق في شقه الموجه للتصدير، زاده تفاقما تداعيات موسم الجفاف، إذ من المتوقع أن يسجل، وفق بنك المغرب، تراجعا في قيمته المضافة بـ 4,6℅. الاستراتيجية المعتمدة حاليا (المغرب الأخضر) لم تعد تتناسب والوضعية المستجدة. لقد بات من الضروري وتعديلها في اتجاه تحقيق اكتفاءه الذاتي أو أمنه الغذائي، الذي كلف المغرب غاليا.

مما لا شك فيه، أنه كلما طالت الأزمة إلا وانخفضت معها مستويات الاحتياطي من العملة الصعبة؛ ونتيجة لتراجع الصادرات، فإن المغرب لا يمكنه التخفيف من حدة استنزاف هذا المخزون سوى عبر طرق باب الاقتراض الخارجي. بمعنى آخر، فإن فاتورة استيراد القمح وغيره من المواد الغذائية ستكون هذه المرة مرتفعة عن سابقاتها. المغرب كان بمقدوره الآن أن يكون في غنى عن هذه المشاكل، لو نهج استراتيجية فلاحية تحقق له اكتفاءه الغذائي. فهذه كوريا الشمالية، رغم عزلتها الدولية، تعمد إلى استغلال أية مساحة فارغة لتحقيق أمنها الغذائي.

لطالما كانت مشاكل الحكومة الحالية كثيرة وتحاصرها من كل جانب. واليوم، مع هذه الجائحة باتت مشاكلها أكثر وأكبر وأعمق، وإن لم تعترف الحكومة بذلك فإنها تعاني الأمرين من أجل استيراد ما يشبع بطون المغاربة. نشير إلى أنه مع بداية تحول الفيروس إلى وباء عالني في شهر مارس الفارط، كانت أولى القرارات التي اتخذتها حكومات دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا هي منع تصدير القمح. إن المغرب بدوره اليوم مطالب أن يتخذ هو الآخر القرارات الاستراتيجية التي تتناسب ومصالحه الوطنية. 

قبل دخول الاستعمار كان المغرب عموما يحقق اكتفاءه الذاتي -باستثناء في فترات الجفاف والأوبئة-، فما يزرعه يستجيب لحاجياته الاستهلاكية، ولا يسمح بالتصدير إلا إذا حقق الفائض. لكن مع الاستعمار حولت فرنسا المغرب الفلاحي إلى حديقته الخلفية بإدخالها لزراعات تسويقية تستجيب لحاجيات سوقها الداخلي. وإلى الآن إن لم تأخذ فرنسا الطماطم المغربية، يجد المغرب صعوبات جمة في اختراق أسواق أخرى لتسويقها. على المغرب أن يزرع ما سيأكله المغاربة، وليس ما تحتاجه فرنسا. آن الأوان أن يكون للمغرب زراعته التي تحقق له استقلاله الغذائي. في مثل هذه الأزمات تظهر أهمية الأمن الغذائي، إذ تجعل الدول في منأى من التقلبات الدولية.

الجميع ناله نصيب من هذه الأزمة، وأصبح الكل على وعي تام بتداعياتها على الصُعد الصحية والاقتصادية والاجتماعية، ليبقى السؤال الأهم هو: كيف يمكننا الخروج من هذه الأزمة بأقل الأضرار؟

في هذا الجانب، الحكومة تتحمل العبء الأكبر، غير أن نجاحها في هذا التحدي يظل رهينا بتعاون القطاع الخاص، ودعم المواطنين وتضامنهم. فبدون تعاون وتجاوب القطاع الخاص والمواطنين لن تنجح الحكومة في الاستراتيجية التي تطرقنا إليها والمتعلقة بحماية السوق الداخلي حفاظا على الإنفاق الاستهلاكي.

أمامنا تحديات كبيرة، وتنتظرنا أياما عصيبة، لن نخرج منها إلا بتلاحمنا، وتحمل جميع الأطراف لأعبائه، وعلى رأسها الحكومة التي ينتظرها اتخاذ قرارات جد قاسية، لكن ينبغي عليها أن تعتمد في ذلك على مقاربة تروم تحقيق التوازن المفقود، والمنشود دائما، بينها وبين المواطن والمقاولة، وبين المواطن وهذه الأخيرة. ما ينقص الحكومة هو التحلي بالشجاعة عند توزيعها للأعباء، ليس استنادا إلى المعيار الديمغرافي، وإنما وفق معيار الثروة بنسب تصاعدية؛ وهذا ما يتطلب منها مزيدا من الشفافية والتواصل البناء لكسب ثقة الجميع. 

نحن على مركب واحد. فإذا كنا نطالب الحكومة بأن تتحلى بالمسؤولية الوطنية والانضباط، ينبغي أن يتحلى الجميع بنفس الحس من المسؤولية والانضباط: مقاولة ومواطنين. أو بصيغة أخرى، ينبغي على الجميع أن يتحلى بـ “سلوك وطني ومسؤول”، وفق تعبير الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى السابعة والستين لثورة الملك والشعب. 

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة