إبراهيم المراكشي يكتب: أضواء على عوامل تخلفنا: لماذا نهضت أوروبا وتخلف المغرب؟

حينما كانت أوروبا تبني سواعد نهضتها في القرنين 16 و17 ماذا كان يفعل أجدادنا المغاربة؟

الواضح24
2020-10-07T12:02:44+00:00
كُتّاب وآراء
الواضح247 أكتوبر 2020آخر تحديث : الأربعاء 7 أكتوبر 2020 - 12:02 مساءً
إبراهيم المراكشي يكتب: أضواء على عوامل تخلفنا: لماذا نهضت أوروبا وتخلف المغرب؟
إبراهيم مراكشي: أستاذ جامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة

السؤال الذي ما فتئ يؤرق تفكيري، وأعتقد تفكير العديد من الباحثين المغاربة المهتمين بقضايا التنمية، هو كيف يعقل أن تظل البلاد رغم قربها الجغرافي من أوروبا، بعيدة عنها بمسافات ضوئية في مجالي التنمية الترابية والبشرية؟

عن هذا السؤال يتدفق سيل جارف من الأسئلة الأخرى، التي لا حد لها في الأفق، تتناسل من مضمونه، لا من صيغته، من قبيل: لماذا عجز المغرب عن الاستفادة من التحولات التي شهدتها وتشهدها القارة “العجوز”؟ ولماذا نجحت تركيا في المجالات التي فشلنا فيها نحن؟

إن هذا العجز لا يعود أمده إلى الفترة الراهنة، بل للمغرب باع طويل وتجارب مريرة سابقة في إضاعة فرص التنمية. فمنذ القرنين 16 و17 عجز المغرب عن مسايرة ركب التحولات التي شهدتها أوروبا وتشهدها، رغم بعض محاولاته الإصلاحية التي أجهضت في المهد. كيف يعقل ذلك؟

إن السؤال الذي سنجيب عنه في هذه الحلقة بسيط في شكله، عميق الدلالات في جوهره. السؤال هو كالتالي: حينما كانت أوروبا تبني سواعد نهضتها، في القرنين 16 و17، ماذا كان يفعل أسلافنا؟

ليست من غايات هذه الورقة القيام بدراسة علمية مفصلة حول الموضوع، ولن نثقل على كاهل القارئ بكثرة الإحالات والمراجع العلمية. فهذه الورقة لا تعدو كونها استعراض لوجهة نظر نابعة من وحي أفكار صاحب المقال، وما راكمه من خلال بضع سنوات من الدراسة حول الموضوع؛ بصيغة أخرى، هي مجرد أفكار انتابت مواطنا غيورا أراد أن يتشاركها مع مواطني بلده.

أما بخصوص الاستنتاجات التي سترد متفرقة هنا وهناك في معرض هذا المقال، فنؤكد على أنها ليست قطعية الدلالة، وإنما مجرد استنتاجات أولية في حاجة للتحقق منها من لدن الباحثين المتخصصين في هذا المجال.

ما الغرض من هذا المقال مادامت استنتاجاته أولية؟ غرض صاحبه أن يحفز القارئ على أن يشغل ملكة تفكيره وأن يبحث عن أسباب تخلفه هو شخصيا، وأن يراجع نفسه في آن واحد. اعتقاد صاحب المقال راسخ في كون بلدنا الحبيب لن يتقدم بدون نقد ذاتي، وهنا ينبغي أن نميز بين النقد الذاتي وجلد الذات وتحميلها ما يفوق طاقتها؛ ثم إن مجتمعنا لن يتقدم دون أن يراجع كل واحد منا نفسه، ويعترف بأخطائه ويعمل على تصحيحها. إن أخطاءنا اليوم الشخصية لها تراكمات تاريخية ينبغي النبش في ماضيها.

لذلك من خلال هذا المقال سنسافر عبر التاريخ، وسنتوقف عند بعض المحطات رابطين بشكل خاطف الماضي بالحاضر، والعكس بالعكس، محاولين الخروج بخلاصات أولية.

للإجابة عن السؤال الرئيسي، الذي اختير كعنوان لهذه المقالة، لا بد وأن نستعرض، -بشكل جد مختزل- وضعية أوروبا خلال تلك الفترة، أي كيف كانت، وكيف صارت.

ينبغي الإشارة إلى كون التنمية عملية تفاعلية تراكمية بين الأجيال؛ لهذا من المنطقي أن نجد الإٍرهاصات الأولية لنهضة أوروبا قد انطلقت بضعة قرون قبل ذلك حينما تقرر نقل حلبة الصراع من أراضيها إلى عمق الأراضي الإسلامية وقلبها النابض في الشرق، وذلك في إطار حروب الفرنجة، أو ما سيصطلح على تسميته لاحقا بالحروب الصليبية.

قرار ذكي ذلك الذي اتخذه البابا أوربانوس الثاني حينما صدر المشاكل الداخلية لأوروبا نحو الشرق بإطلاقه للحملة الصليبية الأولى (1095-1099)، لتتوالى بعد ذلك الحملة الصليبية تلو الأخرى لتصل في مجموعها إلى تسع حملات، امتدت تقريبا لقرنين من الزمان، من سنة 1095 إلى سنة 1291 ميلادية. أوروبا في تلك الفترة، أي العصور الوسطى، كانت تعيش في ظلمة، غارقة في مستنقع الجهل والتخلف، بينما الشرق عكس ذلك تماما.

قرنين من الزمان شكلت لأوروبا مدة زمنية أكثر من كافية للاحتكاك بالعالم الإسلامي، والأخذ ما يناسبها من تراثه وعلومه. ففي السابق، قبل أن يكتسب الأوروبيون فن العمارة وأبجديات الهندسة من الشرق كانت مدنهم متواضعة، عبارة عن قلاع. ولولا ذلك الاحتكاك بالشرق لما ازدهرت مدنهم، ولولا هذا التطور لما ازدهرت التجارة ولا ظهرت فئة التجار التي ستشكل النواة لظهور الطبقة البورجوازية. ما ساعد على ازدهار التجارة أيضا، تعلم أوروبا من الشرق تقنيات جديدة في الملاحة والمعاملات التجارية والمالية.

أوائل المدن التي استفادت من نقل هذه الخبرة هي المدن الإيطالية، وذلك نتيجة عامل القرب ولمتانة الروابط التجارية التي تربطها بالحواضر العربية. لهذا من المنطقي، بعد عملية تراكمية، أن تنطلق النهضة الأوروبية في الفنون والآداب والعلوم من المدن الإيطالية تحديدا، وأن تنجب أسماء بصمت الحضارة الإنسانية، قبل أن تستلم فرنسا المشعل. إن أوروبا لم تنهض من فراغ، بل زاوجت في نهضتها بين إحياء تراثها القديم والنهل من علوم الشرق.

الخلاصة أن طول فترة الصراع بين الغرب المسيحي بالشرق الإسلامي من خلال الحملات الصليبية، شكل مدة زمنية كافية، -أنهك خلالها الشرق-، لكي تنشط حركة نقل معارف الحضارة العربية-الإسلامية المعمارية والطبية والعلمية الأخرى نحو أوروبا، وخلالها نشطت أيضا حركات الترجمة في مناطق التماس كطليطلة في شبه الجزيرة الإيبيرية وباليرمو بصقلية. الآن نعود لنتساءل كيف كانت أوروبا خلال القرنين 16 و17؟

شهدت أوروبا خلال هذه الفترة تحولات دينية وسياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية كبرى. فدينيا اتجهت للتخلص من هيمنة الكنيسة بظهور حركة إصلاح ديني لوثرية وكلفانية، دعت إلى رفض صكوك الغفران، والتحرر من هيمنة الكهنوت على المجالين السياسي والاقتصادي، وإلى تقرير حرية الفرد واستقلاله؛ كما قالت بعدم وجود واسطة بينه وبين الخالق. هذه الأفكار شكلت رافدا مهما لتطور الأفكار الداعية إلى فصل الكنيسة عن الدولة، وفصل الدين عن المجالات السياسية عموما.

التحرر من هيمنة الكنيسة كان له وقع إيجابي على تطور العلوم. فقبل أن تشتعل الثورات السياسية في أوروبا، استعرت ثورة ثقافية في أهم المدن، وذلك عندما انتقل التعليم من دائرة الاحتكار الكنسي داخل الأديرة إلى دائرة المدارس العمومية التي فتحت أبوابها للجميع، وطغى على مضمونها الطابع العلماني.

علميا شهدت أوروبا نهضة فكرية، إذ عملت أولا على إعادة إحياء المعارف القديمة اليونانية والرومانية، ثم على استيعاب المعارف العلمية العربية. ومن أجل نشر المعرفة، أنشأت الجامعات، وتطورت مناهج البحث العلمي الحديث. لكن تنبه الأوربيين إلى ضرورة أن تدرس العلوم باللغات الوطنية، وأن يتم التأليف بها. وبالموازاة مع ذلك، شهدت صناعة الورق والصباغة تطورا ملحوظا. وقبل هذا وذاك، كان لاكتشاف الطباعة بالحروف المتحركة، في منتصف القرن 15، عظيم الأثر في نشر العلوم والأفكار التحررية الجديدة على أوسع نطاق. وبفضل هذه المجهودات نهضت العلوم وحصلت اكتشافات علمية مهمة في مجالات الفلك والتشريح والهندسة والكيمياء، إلخ. في هذه الفترة، سنجد المغرب غارقا في مستنقع الجهل، وقد توقف عقله عن الإنتاج العلمي، وتعليمه يتم بأدوات تقليدية، ويقتصر على الجانب الديني تحديدا.

تميزت هذه الفترة كذلك بحركة “الاستكشافات” الجغرافية الكبرى (1420-1580)، التي كانت محصلتها النهائية استعمار أوروبا لجل شعوب الأرض، وتسخير ثرواتهم لها. في هذه الفترة كان للمغرب أسطوله هو الآخر، لكنه لم يفكر في الانخراط في هذا المسار، سنكتشف في القادم من الصفحات أسباب ذلك.

لقد أيقنت أوروبا أن تقدمها وازدهارها لن يتم بدون تحقيق استقلال اقتصادي كامل عن الشرق الإسلامي، وغربه أيضا. في هذا الإطار، لا ننسى أن المغرب ظل لقرون عديدة يلعب دور الوسيط التجاري بين غرب إفريقيا وأوروبا. لذلك كان الغرض في الأصل من هذه “الاستكشافات” التخلص من الوساطة العربية عموما التي، بحكم موقعها الجغرافي، احتكرت طريق الحرير وطريق البحر الأحمر، بالذهاب مباشرة إلى منابع المواد الخام والسلع والتوابل في الهند والصين، وكذا من أجل تصريف الفائض في الإنتاج الذي بدأت بعض الدول الأوروبية تحقيقه.

هذه الاستكشافات في البداية كانت حكرا على مملكتي إسبانيا والبرتغال، قبل أن تنافسهم في ذلك دول مثل فرنسا وانجلترا وهولندا. هذه الأخيرة، رغم مساحتها الجغرافية الضيقة، باتت تتوفر على أقوى أسطول بحري في القرن 17، إلا أنها استنزفت نتيجة الحروب التي أعلنت ضدها، بين سنتي 1652 و1713، من طرف كل من فرنسا وبريطانيا.

وعلى الجملة، فالثروات التي تدفقت من المستعمرات على أوروبا ساهمت على تشجيع العلوم ودعم الفنون والآداب. باختصار شديد، العلوم في أوروبا لم تتقدم دون المال، فكلاهما سارا على نفس الخط، وعلى نفس النهج.

أما اقتصاديا فقد انتعشت التجارة الخارجية نتيجة هذه “الاستكشافات” الجغرافية، ومعها التجارة الداخلية نتيجة ازدهار المدن وشق الطرق وإصلاح وبناء القناطر، وشق قنوات الري؛ زادت المحاصيل الزراعية وظهرت صناعات جديدة، من أهمها صناعة الحرير؛ فأدى ذلك اجتماعيا إلى ظهور طبقة جديدة من التجار الأغنياء التي انتزعت تدريجيا السلطة من السادة الاقطاعيين. في الواقع، عوامل عديدة ساهمت في زوال وتلاشي نظام الإقطاع، فتحرر بذلك الفلاحون والأٌقنان، وأدى ذلك مع مرور الوقت إلى نشأة الطبقة الوسطى التي شكلت بالنسبة للدول الأوروبية الحديثة ركيزة أساسية لاستتباب الأمن والنظام. إن تفكك نظام الإقطاع قد واكبه نشأة وتطور النظام الرأسمالي. خلال هذه الفترة، سنجد أن الفقر الذي كان يعيش فيه جل المغاربة كان سببا، من بين أسباب أخرى، لغياب الأمن وعدم استقرار الأوضاع في البلاد.

سياسا ظهرت الدولة الحديثة، فأصلحت الإدارة، وأدخلت نظم ومؤسسات جديدة، في وقت ظل نظام الحكم في المغرب تقليديا يرتكز على “أحكام سلطانية” متجاوزة.

إن بروز الدولة الوطنية في أوروبا شجع على استعمال اللغات القومية في العلوم والآداب، وشجعت الروح القومية على الانبعاث من مرقدها، فكان ذلك من بين أسباب ظهور وتطور الرأي العام. وبسبب عصر التنوير نشطت الأفكار السياسية، ومعها الحركة الديمقراطية، والحياة السياسية على العموم. خلال هذه الفترة ازدهرت أهم النظريات التي كان لها أكبر الأثر في اندلاع الثورة الفرنسية (1789-1799)، التي أثرت على نظمنا السياسية المعاصرة؛ وقبل ذلك بسنوات قام الشعب الإنجليزي بثورة أدت إل إحداث تغييرات دمقراطية جوهرية على شكل النظام الملكي (1689). إذا كان المجتمع الأوروبي أخذ في الانفتاح، سنجد أن المجتمع المغربي في نفس تلك الفترة قد انعزل وانطوى على نفسه بسبب كثرة الهزائم الخارجية، ودخل في صراعات داخلية عميقة مزقت صلابة وحدته.

هذه التحولات التي شهدتها أوروبا كانت خلاصة مخاض عسير خاضه “المواطن” الأوروبي في سبيل أن ينال حقوقه. مسار هذه العملية لم يكن دون تضحيات، ودون أن يعاني منها الإنسان والحجر على السواء. فالصراع الديني مثلا، بين البروتستانت والكاثوليك أزهق ما يزيد عن 10 مليون حياة، بعد أن انخرطت العديد من الدول الأوروبية في هذه الحرب، التي وصفت بحرب الثلاثين عاما (1618-1648).

لكن في الوقت الذي كان فيه “الأوروبي” يكافح ويناضل من أجل تحقيق هذه التحولات الإيجابية، ماذا كان يفعل “المغربي” في المقابل؟

“المغربي” في تلك الفترة انشغل بصد الهجمات الآتية من الممالك الشمالية النصرانية، من شبه الجزيرة الإيبيرية تحديدا. هذه الممالك احتكت بالمغربي في معارك عديدة، خبرت قوته وضراوته، وأدركت مبكرا أن القضاء على التواجد الإسلامي بالأندلس يمر بالضرورة عبر إضعاف المغرب، وقطع الطريق أمامه لنجدة المسلمين في العدوة الأخرى. لا بد وأن نشير أن قوة المغرب العسكرية أخذت في التراجع منذ الهزيمة التي تعرض لها في معركة العقاب سنة 1212. لقد كان وقع هذه الهزيمة على الأمة المغربية شبيهة بوقع حرب النكسة على الأمة العربية. لقد شكلت هذه الهزيمة بداية العد العكسي لتراجع المغرب كقوة إقليمية كبرى يحسب لها ألف حساب في المنطقة. توالت الهزائم عليه بعد ذلك، ولم يتمكن المغرب من رفع رأسه سوى في محطات قصيرة، عجز عن توظيف انتصاراته الاستثنائية للحاق بركب القوى الأوروبية.

انتقل “المغربي”، حتى قبل عقود عديدة من سقوط آخر معاقل المسلمين بالأندلس، من وضعية القوي، الغازي المهاجم إلى وضعية المدافع عن أراضيه، من صاحب المبادرة إلى مجرد صاحب رد الفعل.

ولهذا نجد سنوات عديدة قبل سقوط جبل طارق سنة 1462، احتل البرتغاليون بعض الثغور المغربية. يتعلق الأمر بكل من مدينة سبتة (1458)، وحاضرة القصر الصغير (1458)، فأصيلا وطنجة (1471). كانت لهذه الثغور أهمية عسكرية تفوق أهميتها الاقتصادية، فهي تمثل نقط مراقبة، أو خط دفاعي أمامي متقدم من شأنه أن يقطع الطريق أمام أية امدادات عسكرية لنجدة بنو الأحمر. هذه الثغور السالفة الذكر جرى احتلالها سنوات قبل السقوط النهائي للأندلس، فمدينة سبتة احتلت قبل ذلك بـ 77 سنة.

بعد سقوط الأندلس، زادت حدة الضغط العسكري على المغاربة” في وطنهم المغرب. خمس سنوات بعد تسليم مفاتيح غرناطة سيعمل الإيبيريون على نقل حلبة الصراع بشكل كامل إلى عمق التراب المغربي. هكذا ستقوم مملكة اسبانيا، المشكلة حديثا كدولة، باحتلال مدينة مليلية في 17 شتنبر 1497، لتتوالى بعد ذلك سقوط الثغور المغربية كأوراق الخريف.

لقد وجد المغرب نفسه في مطلع القرن 16، بعد أن احتلت ثغوره المتوسطية، قد فقد السيطرة أيضا على واجهته الأطلسية بعد أن احتلت أهم ثغوره الشاطئية، إذ قام البرتغاليون باحتلال الموقع المعروف حاليا بأكدير (1505)، وسموه بحصن فونتي، كما احتلوا أمكدول (1506)، أي الصويرة حاليا، وآسفي (1508)، وآزمور (1513)؛ ومازيغن (1514)، أي الجديدة حاليا، والمعمورة (1515)، أي المهدية القريبة من مدينة القنيطرة حاليا.

استراتيجية كل من البرتغال وإسبانيا واضحة جلية، وهي حرمان المغرب من استغلال واجهته البحري حتى لا يعود إلى سابق عهده كقوة بحرية إقليمية من شأنها أن تهدد الخطوط الملاحية التجارية المستكشفة حديثا، أو أن ينخرط هو نفسه في “الاستكشافات” الجغرافية الكبرى. أنشطة القرصنة التي ازدهرت، بفضل المورسكيين تحديدا، لم تتمكن من قلب هذه المعادلة. لقد ظل المغرب نائما في هذا الجانب حتى حدود مطلع الألفية الجديدة عندما قام بتشييد ميناء طنجة المتوسطي.

استراتيجية البرتغاليين والإسبان تهدف إلى محاصرة المغرب بحريا، لكنها في نفس الوقت تروم أيضا تأمين الطريق البحري الذي كان في طور الاستكشاف والذي سيقودهم إلى منابع التوابل والعقاقير والعطور في كل من الهند والصين.

لم يقتصر التهديد على واجهة المغرب البحرية، بل انطلاقا من هذه الثغور الشاطئية شن البرتغاليون غارات وحشية دموية داخل عمق ترابه. فمن طنجة وسبتة لم تسلم المناطق الممتدة إلى حدود منطقة وزان من هجماتهم، ومن مدينة أزمور وصلت غارات البرتغاليين إلى عمق مدينة الرباط؛ وانطلاقا من ثغر آسفي لم تسلم مناطق تانسيفتن وحاحة. الهدف الاستراتيجي من هذه الهجمات، إنهاك المغرب داخليا واستنزاف ما تبقى من قواه ومن موارده. لا بد من الإقرار أن شخصية “المغربي” صعبة المراس، فرغم كثرة الهزائم، قاوم ببسالة ولم يسقط نهائيا إلا سنة 1936 بعد أن استنفذ آخر رصاصة لديه.

ولإحكام طوق الحصار عليه، التف البرتغاليون على المغرب من جهة الجنوب، فتمكنوا من الوصول إلى مصب نهر السينغال، ومع بداية القرن 15 أصبح للبرتغال موطن قدم في المنطقة الممتدة من سيراليون حاليا إلى غانا، هدفهم في ذلك تغيير مسار طرق القوافل التجارية لكسر يد وساطة المغرب بين تجارة إفريقيا جنوب الصحراء ودول أوروبا الغربية. طوق الحصار هذا لم يتمكن المغرب من كسره جزئيا سوى في عهد الملك محمد السادس بفضل خرجاته الإفريقية. هكذا وجد المغرب عند منتصف القرن 16 نفسه محاصرا من الجهة المتوسطية وكذا الأطلسية ومن جهته الجنوبية، يضاف إلى ذلك احتلال الأتراك للجزائر وتهديدهم لحدوده الشرقية.

من خلال هذا العرض التاريخي المختزل، ما نريد قوله هو أنه في الوقت الذي كانت فيه كل الظروف مواتية لأوروبا لتشييد نهضتها على أسس متينة، عملت هذه الأخيرة كل ما في وسعها على إضعاف المغرب وإنهاكه طيلة القرنين 16 و17 بالدفاع عن أراضيه، وصده للتدخلات الأجنبية.

لكن هل يمكن اعتبار هذه الاعتداءات الخارجية التي تعرض لها المغرب، وتعرض ثغور وشواطئه للاحتلال، عاملا كافيا ووجيها لتعثر نهضته؟

لو كان الأمر كذلك لكانت فرنسا، الدولة الأوروبية التي خاضت أكبر عدد من المواجهات المسلحة ضد دول أوروبية أخرى، قد تخلفت بدورها. قد يقول قائل إن ثروات مستعمراتها شكلت لها خزانا لا ينضب ساعدها على تجاوز الأزمات الناجمة على ذلك. هذا المعطى وجيه، لكن المستعمرات لا يمكن اعتباره سببا كافيا، لأن لو كان الأمر بعدد المستعمرات، لظلت إسبانيا متقدمة بمستعمراتها في أمريكا اللاتينية. وعلى العموم، فإن دول أوروبا خاضت خلال هذه الفترة حروب طاحنة ضد بعضها البعض، دون أن يؤدي ذلك إلى تخلفها.

ما منع فرنسا من الانهيار هو أن الفكر لم يتوقف، إذ ظلت نهضتها الفكرية في الفنون والعلوم شمعة متقد، منارة تنير أوروبا بأسرها. إن النهضة الفكرية هي التي تحفز الأمم على النهوض من جديد بعد كل كبوة. الأفكار هي التي تجلب المال، وهي التي تخلق الثروة.

أما بالنسبة للمغرب، فقد بدأ مسلسل تخلفه عقود عديدة قبل ذلك، حينما عجز “العقل” المغربي عن مواصلة الابتكار والإبداع، بسبب قمع الأفكار، واضطهاد العلماء الأحرار. لا نقصد هنا فقط الفقهاء الذين عارضوا هوى البلاطات، وإنما أيضا الفلاسفة والأطباء وغيرهم من العلماء في شتى المجالات. مشعل التقدم خفت تدريجيا بين الأجيال، وتوقفت التنمية بانقطاع التراكم المجتمعي، إلى أن حصل بينه وبين أوروبا شرخ كبير في مجال الهندسة والعلوم.

مطلع القرن 17، أي ما بين عامي 1609 و1614، سيستقبل المغرب على دفعات أفواجا عديدة من المورسكيين. شكلت قوة بشرية على قدر كبير من المعرفة، ففيهم العالم، والطبيب والمهندس، والخبير في البارود وفي المدافع، والحرفي الماهر، والمزارع، إلخ. لكن المغرب عجز عن استيعابهم وإدماجهم في صلب العملية الإنتاجية نتيجة جملة من العوامل. فمن جهة، الإنتاج توقف تماما، ومن جهة أخرى، ضعف الحكم المركزي منذ العهد الوطاسي، وفقد سيطرته على أطراف البلاد. الضعف والوهن الذي أصاب مركزية السلطة لم يكن سوى نتيجة لتنازع الأمراء عليها. أما في مجال الزراعة والهندسة والعلوم فقد تأخر المغرب عن الأندلس بشكل مهول وحصل شرخ كبير بينهما.

فحينما وصل المورسكي إلى المغرب لاجئا، وجد “المغربي” قد تأخر عنه حضاريا. لم يكن المورسكي، القادم من الأندلس بسحنته الأوروبية، وتأثره بنمط حياة النصارى، يرى أي قاسم مشترك بينه وبين “المغربي” سوى تقاسمه العداء وكرهه الشديد للإسبان وللبرتغاليين؛ بل كان إسلامهم محط شك من لدن عامة المغاربة بصفتهم قادمين من “دار الكفر”.

لذلك لم يرى المورسكي ضرورة للاندماج في مجتمع لا يناسبه، بل ولا يثق فيه، فآثر الاستقرار في بعض الثغور الشاطئية وعمر بعض الحواضر المخربة في الواجهة المقابلة، المطلة على شواطئ الأندلس، ومن هذه المواقع أسس أسطولا بحريا قويا، بلغ صيته وسطوته الآفاق، أغار به على سفن “النصارى”. سبب آخر، شكل عائقا في اندماج المورسكي، وهو أنه ظل يعتبر المغرب دار ممر، لا دار قرار واستقرار نهائي، في انتظار أن تحين الفرصة للعودة لأرض الوطن بالأندلس. وعلى الجملة، فإن الظروف التي مر منها المغرب آنذاك لم تساعده لاستغلال أمثل للقوة البشرية التي مثلها الوافدون الجدد من الأندلس

يضاف إلى ذلك، أن كثرة الهزائم أدت إلى انكسار الشخصية المغربية، وإصابتها بالإحباط، فتصدعت مناعة المجتمع، وتهاوت قيمه وأخلاقه. لقد بلغ فساد المجتمع في العهد الوطاسي ذروته، فكثرة الموبقات وتفشت في المجتمع: تعاطي الخمور، زنى وسحاق ولواط واتيان الصبيان، بل وظهرت أسواق مخصصة لذلك وبنيت فنادف لممارسة هذه الرذائل؛ كما انعدم الأمن وكثر قطاع الطرق وما يرافق ذلك من اعتراض لأملاك الناس وسبي واغتصابات.

في الواقع، أصبحت التجارة لا تستقيم في المغرب، والاقتصاد لا تقوم له قائمة في ظل غياب الأمن. وهذا ما ساهم في تخلف المغرب في القرنين 16 و17.

لقد كان الحسن بن الوزان، أو ليون الإفريقي، في رحلته للمغرب، وتحديدا لمنطقة أزمور ونواحيها، شاهدا على هذه الانحرافات الشاذة، أمينا دقيقا عندما قام بتوثيقها في كتابه “وصف إفريقيا”.

 بل إن الفقر دفع المغاربة قرب الثغور المحتلة إلى بيع أطفالهم للغازي المحتل مقابل ما يسد رمقهم، ودفع الآلاف منهم لركوب البحر طوعا هربا من الجوع صوب البرتغال تحديدا. لقد استفاض الباحث أحمد بوشرب في كتابه “مغاربة البرتغال” في تشخيص هذه المرحلة.

وعلى الجملة، لم تعد الشخصية المغربية قادرة على الإنتاج، وبالأحرى على الإبداع؛ ليس فقط فيما يتعلق بالإنتاج الفكري والعلمي، وإنما أيضا كل ما يتعلق بالاقتصاد. وعندما تصاب الأمم بالذل والهوان، وتكثر عليها وقع الهزائم، أول ما يتهاوى جدار قيمها وأخلاقها. إن ما يعيشه المجتمع المغربي اليوم من انحطاط أخلاقي ليس جديدا عليه.

ظهر بعض الدعاة الإصلاحيين خلال تلك الفترة، لكن علماء البلاط كانوا لهم بالمرصاد. لم تكن معركتهم متكافئة، إذ كان هؤلاء الدعاة في مواجهة مزدوجة، من جهة ضد مع الحاكم الفاسد وحاشيته، ومن جهة أخرى كان عليهم التصدي لفساد المجتمع. من هؤلاء الدعاة المصلحين نذكر مثلا عبد الله الهبطي، وامحمد التازي التسولي، وأحمد البرنسي الفاسي، وغيرهم…

مشكلة المغرب قديما، وهي أيضا مشكلته حديثا، أن من يرغب في البناء والإصلاح، يجد أمامه “جيش” في الخفاء له معاوله، وعلى أهبة الاستعداد للهدم والتدمير. هذا “الجيش” له نفوذ وشبكته قوية، لا تطاله يد الحساب والجزاء. في ظل هذه الهزائم ألم يكن للمغرب بعض الانتصارات؟

بلى، حقق انتصارات، بل وانتصارات باهرة مدوية، لكنه عجز عن توظيف نتائجها كمنطلق لبناء الإرهاصات الأولية لنهضته. فأمام كل انتصار ظل العقل المغربي يفكر بعقلية القرون الوسطى، عاجزا عن استيعاب المتغيرات التي شهدتها أوروبا في تك الفترة، والتجاوب معها. عقلية القرون الوسطى هذه تتجلى على عدة مستويات.

فمثلا، بعد الانتصار الباهر الذي حققه المغاربة في معركة وادي المخازن، يوم 4 غشت 1578، والذي أبلى فيه المورسكيون والأتراك أيضا البلاء الحسن، لم يعمد السلطان أحمد، الذي لقب بالمنصور لانتصاره في هذه المعرك، وبالذهبي لتدفق الذهب على خزائنه من عملية افتكاك النبلاء البرتغاليين والأسرى المسيحيين عموما، نقول لم يعمد هذا السلطان إلى توظيف واستغلال هذا المال لبناء اقتصاد قوي وفق معايير تلك الفترة: بناء مدارس عمومية، إصلاح جامعة القرويين وتحويلها لجامعة عصرية، إقامة السدود وقنوات للمياه، إصلاح الأراضي الزراعية، شق الطرق وبناء القناطر، تشييد الموانئ، دار لصناعة السفن، إلخ. وفي هذه النقطة الأخيرة تحديدا كانت نقطة ضعف جيشه القوي، إذ لم يكن يتوفر على قوة بحرية نظامية تحمي شواطئ البلاد. لم يكن اهتمام السلطان أحمد الذهبي منصبا على تطوير الاقتصاد، فاهتمامه ظل منصبا في المحافظة على استقلال البلاد، باللعب على وتر تناقضات التحالفات، فتارة يتحالف مع العثمانيين لصد أطماع الإسبان، وتارة أخرى يتحالف مع هذه الأخيرة لقطع الطريق أمام أطماع العثمانيين للوصول إلى الواجهة الأطلسية. في هذا النقطة تحديدا السلاطين الأقوياء الذين شهدهم المغرب انصب اهتمامهم على الدفاع عن وحدة البلاد أكثر من تنمية الاقتصاد.

لكن، والحق كان للسلطان السعدي في أواخر عهده محاولة لتأسيس صناعة قصب السكر بإقامة مصنع في حاجة ومصنعين بشيشاوة، إلا أن بمجرد وفاته أهملت هذه المصانع نتيجة المنافسة الشرسة للمصانع البرازيلية.

نعود لنقول إن ما أقدم عليه السلطان أحمد المنصور الذهبي هو توظيفه لهذا الانتصار، والأخذ بنتائجه جنوبا في محاولة لاسترداد عمق المغرب الاستراتيجي في السودان الإفريقي، أي جنوب صحرائه، وذلك على حملتين، الأولى والثانية سنة 1591، عاد بعدها السلطان مثقلا بالذهب والعبيد. في الواقع، لطالما كان جزء كبير من اقتصاد المغرب، خاصة في عز قوته، مرتبط بما يمكن أن نصطلح عليه بـ “اقتصاد الجهاد”، أي الغزو والسبي الذي يحرك جملة من الأنشطة الاقتصادية الموازية.

غير أن حملة أحمد المنصور الذهبي لم تستهدف “دار الكفر”، بل عمق “دار الإسلام”، لأن الممالك التي تم غزوها تدين بدين الإسلام. إن الحملات الإفريقية للسلطان أحمد المنصور الذهبي كانت لها أهداف ومطامع اقتصادية بحتة.

مثال آخر، عندما كان القراصنة المقيمين في المغرب يعيشون أزهى فتراتهم، ما بين عامي 1624 و1668، يصولون ويجولون بأسطولهم القوي شرق البحر المتوسط وغربه، بل ويصلون بغاراتهم إلى شواطئ إنجلترا وإيسلاندا، لم يفكر المغربي في استغلال تلك السفن لحمل السلع والبضائع والعمل على البحث عن أسواق أخرى لتصريفها؛ والسبب في ذلك هو أن المغربي في تلك الفترة تأخر عن مسايرة ركب التطور الحضاري، وتوقف عقله عن الابتكار ويده عن الإنتاج؛ لذلك كان من الطبيعي أن يغيب عن تفكيره فكرة في توظيف هذا الأسطول القوي لينخرط به في مسار “الاستكشافات” الجغرافية الكبرى، التي كانت ناديا أوروبيا صرفا.

لقد اختار المغربي الطريق السهل، وهو أن يغير على سفن “الكفار” وأن يسلب حمولتهم ويبيع أسراهم. ينبغي الإشارة، إلى أن القرصنة في تلك الفترة كانت أمرا مستباحا، مارسها المسيحيون المسلمون على حد سواء، غير أن منطلقات القرصنة في المغرب كانت لها أسبابها الاقتصادية والتاريخية والدينية أيضا (البحث عن موارد مالية، رد فعل على استباحة ثغوره وشواطئه، رغبة المورسكي في الانتقام ممن طرده من وطنه وسبا ممتلكاته، إلخ.).

ارتباطا بما سبق، فاحتلال ثغوره الشاطئية، دفع المغرب ثمنه باهظا؛ ذلك من أجل تحرير أرضه استنزف ما تبقى من قواه؛ بل وكلما حرر ثغوره إلا واحتلت مرة أخرى بمجرد ما يتسلل الضعف والوهن جسد الحكم المركزي. هكذا نجد المغرب قد حرر جل الثغور بعد معركة وادي المخازن، لكن سقطت مرة أخرى في أيدي الاحتلال الأجنبي في أواخر عهد السعديين، لينهض المغرب مرة أخرى في عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل ويتم تحرير هذه الثغور.

في الواقع، القوى الأوروبية ظلت حريصة على ألا يرفع المغرب رأسه، ففي كل مرة كانت تناوشه، وفي كل مرة يجد المغرب نفسه في موقف المدافع عن أرضه. استنزف المغرب كثيرا بهذه الاستراتيجية، إلى أن خارت قواه نهائيا ولم يعد له من ورقة يلعب بها ليؤخر سقوطه النهائي سوى تضارب الأطماع والمصالح بين الدول الأوروبية المتنافسة عليه (القرن 19).

في الفترات القليلة التي ساد فيها النظام بالمغرب، ظل استقراره هش وقوته العسكرية عاجزة عن الحفاظ على ديمومتها الزمكانية، إذ لم يكن اقتصاد المغرب بتلك القوة التي يسمح له بتمويل الجيش، وإنما ظل يعتمد في ذلك على الضرائب والمكوس بدرجة أساسية، الشيء الذي كان يثقل كاهل الرعايا ويزيد من فقرهم، ومدخلا ارتكبت من خلاله الكثير من التجاوزات. هذا المعطى أحدث شرخا بين الحاكم والمحكوم، وضع تراب الوطن على صفيح ساخن بانتفاضات وتمردات القبائل.

فهذا السلطان المولى إسماعيل، الذي حكم البلاد من سنة 1672 إلى سنة 1727، استطاع أن يشيد دولة قوية بقوة الحديد والنار، لكنه عجز عن بناء اقتصاد قوي، ونتيجة لذلك كان من المنطقي أن تتراجع تجارة المغرب الخارجية، وبالتالي تراجعت الاعشار الناجمة عنها. في عهده أصبحت جل مداخيل المغرب تأتي من الضرائب ومن مداخيل القرصنة البحرية، التي استطاع أن يفرض شروطه على القراصنة، بعد أن أصبوا منذ سنة 1600 أشبه بموظفين تابعين له، يسلمون له الأسرى الأوربيين ليستفيد من مداخيل افتدائهم. بعبارة أخرى، أصبحت أجهزة الدولة المخزنية تقتات على مداخيل القرصنة والضرائب.

وحينما فكر السلطان المولى إسماعيل في إحداث جيش قوي لم يتعاقد -بالمفهوم المعاصر-  مع “مواطني” بلده، وإنما جلب من السودان العبيد والحراطين. إن تأسيس جيش “عبيد البخارى” من عناصر غير وطنية يدل على وجود اختلالات عميقة في طبيعة علاقة السلطان بـ “رعيته”. هناك تفسير واحد منطقي لذلك، هو أن السلطان لم يكن يثق في المغاربة؛ فكون جيشا من عناصر غير مغربية، كان وبالا على البلاد، وعاث فيها فسادا بعد موت السلطان، يخلع سلطانا ويعين آخر بين عشية وضحاها، فكان ذلك سببا آخر عمق من جراح المغرب الناجمة عن تخلفه.

حتى العوامل الطبيعية لم تكن رحيمة بالمغرب، لقد قل الزرع بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد في أكثر من موسم فلاحي طيلة القرنين 16 و17، فانحباس المطر نتج عنه نقص في الحبوب وارتفاع في أسعارها، الشيء الذي أدى إلى حدوث مجاعات دورية، وهي نفس الفترة التي تزامنت كذلك مع انتشار الأوبئة، بل وأمراض أخرى كالزكام والسعال والتيفوس، فحصدت أرواح الألوف من المغاربة. أفرغت العديد من القرى من سكانها، وأصبحت خاوية على عروشها، وأصبحت العديد من المدن مجرد أطلال؛ فهذه مدينة فاس في أحد الأوبئة تقلص عدد سكانها للمستوى الذي أصبح فيه من غير الممكن دفن الموتى. لم تكن إمكانيات المغرب تسمح له بتدبير الأزمات الناجمة عن الأوبئة، مما ساهم في إضعاف المخزن والمجتمع على حد سواء.

إذا نظرنا للأمر من هذا الجانب، وفي إطار الدورة التاريخية الخلدونية، فإن تخلف المغرب كان قدره المحتوم الذي لم يكن بمقدوره “الفرار” منه، وذلك.

وعلى العموم، فهذه الأمثلة تدل على أن المغرب في نظامه للحكم وتدبير شؤون الدولة ظل حبيس القرون الوسطى، في الواقع، كان المغرب على وعي تام بالمتغيرات الإقليمية والدولية، لكنه ظل عاجزا عن اللحاق بالركب، في وقت كان فيه القطار في محطته الأولى؛ عجز عن ذلك نتيجة:

  • الاعتداءات الأجنبية؛
  • فساد نظام الحكم والرعية على حد سواء؛
  • الصراعات الداخلية على السلطة وتمزق وحدة البلاد؛
  • انتشار الفساد في صفوف طبقة الفقهاء؛
  • انتشار الفكر الخرافي وتفشي المعتقدات الباطلة؛
  • اقتصار التعليم على الجانب الديني، وإهمال تدريس العلوم والهندسة؛
  • تراجع الاهتمام بالعلم والعلماء؛
  • تخلف اقتصادي وتعثر عملية الإنتاج؛
  • الأوبئة والكوارث الطبيعية، إلخ.

لقد تراجع المغرب أمام القوى الأوروبية خلال القرنين 16 و17 لأنه تخلف علميا في الطب وفي الهندسة، وفي غيرها من العلوم، ولأن نظام حكمه أصابه الفساد، وحينما يفسد الحكم تفسد معه الرعية؛ وبالتالي فإن تخلف المغرب لم يكن فقط علميا، وإنما أيضا سياسيا وأخلاقيا. والمغرب اليوم إن أراد الخروج من دائرة التخلف فلن يكون ذلك سوى بالعلم أولا، وبنظام الحكم الصالح أو الرشيد. إن فساد السياسة في المغرب أفسد المجتمع وهز مناعته الأخلاقية، فما نشهده اليوم من مظاهر صادمة لانحطاط أخلاقي عاشه المغاربة طيلة القرنين 16 و17.

لو اقتصرت أوروبا على علوم الشرق لما تقدمت، ولكنها التمست لنفسها مسارا بمسالك شتى. انفتحت على الشرق، الذي كان يمثل في عصره قمة الحضارة والتقدم، فأخذت منه العلوم والقواعد القانونية الخاصة بالمعاملات التجارية والمدنية والمالية، لكنها تركت تراثه الديني لتعارضه مع تراثها. أوروبا عادت إلى تراثها القديم وعملت على إحيائه، بعد أن نفضت الغبار عنه. بدوره نهضة المغرب لن تخرج عن هذا المسار. إن دعوة البعض للتنكر لتراث الماضي جملة وتفصيلا لن يساعده في شيء. تراثنا فيهع الكثير من الإيجابيات، ولكن أيضا الكثير من السلبيات، لذا ينبغي العمل على نقضه وغربلته، والتمسك بكل ما من شأنه أن يعزز الوحدة والتلاحم والتضامن بين مختلف فئات المجتمع. فالمغرب اليوم منقسم على ذاته. المغرب لن يتقدم ما لم تكن له عين على الماضي، وعين أخرى تتطلع إلى المستقبل بعلومه ومعارفه ونظم حكمه.

في الحلقة المقبلة سنتطرق عن الأسباب التي أدت إلى فشل أول محاولة جادة لنهضة المغرب في عهد السلطان العظيم المولى الحسن الأول.

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة