الحدث الأبرز بالمغرب خلال هذا الأسبوع، والذي سيسيل لا محالة سيلا جارفا من الكتابات خلال الأسابيع المقبلة، هو إخراج مشروع القانون المتعلق بالاستعمالات المشروعة للقنب الهندي إلى حيز العلن، وفق ما أعلنته الحكومة عقب اجتماعها الأسبوعي الخميس (25 فبراير 2021).
يتعلق الأمر بقانون فريد من نوعه في تاريخ التشريع المغربي، ثوري بكل المقاييس في جنسه، أبعاده متعددة بعضها ظاهر بالعين المجردة، والبعض الآخر خفي يتوارى بين ثنايا سطوره.
إن فكرة تقنين استعمال مادة القنب الهندي ليست وليدة اليوم، فقد سبق وأن تقدمت مجموعات برلمانية، قبل بضع سنوات، بمقترح قانون لتقنين زراعة هذه النبتة، وأيضا للعفو عن مزارعيها الملاحقين قضائيا، إلا أنه لم يكتب له أن نوقش في قبة البرلمان. لماذا بالأمس جوبه بالرفض، وحظي بالقبول اليوم؟ فما الذي تغير بين عشية وضحاها؟ أشياء كثيرة على أرض الواقع…
في البداية، ينبغي استعراض بعض المعطيات التي من شأنها أن تنير لنا الطريق لنفهم أكثر الدوافع التي حثت الحكومة المغربية على نقل هذا المشروع، من حظيرة الخميرة إلى الفرن، ليخرج في نهاية المطاف في حلته الحالية.
القرار الذي اتخذه المغرب لم يأتي من فراغ، بل أملته عوامل وظروف خارجية وأخرى داخلية. إن المغرب لم يكن ليخطو هذه الخطوة لولا استقراؤه الحكيم للتحولات التي سيشهدها العالم بعد إقدام لجنة المخدرات في الأمم المتحدة، نهاية السنة الفارطة، على سحب نبتة القنب الهندي من لائحة المخدرات الخطرة بالعالم، بعد أن طالها الحظر مدة 60 عاما.
هذا القرار الأممي جاء تنفيذا لتوصية كانت قد أصدرتها منظمة الصحة العالمية، عامين قبل هذا القرار، تدعو فيها إلى إعادة تعريف درجة خطورة نبتة القنب الهندي. لقد استغرق الأمر سنتين لتتوافق القوى المؤثرة عالميا، كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والصين، حول صيغة هذا القرار، الذي يعد استجابة لضغوطات مارسها اللوبي المستثمر في قطاع الصحة والأدوية على حكومات هذه الدول، ويمهد الطريق أمامها لتستحوذ على جزء كبير من عائدات تجارة مخدر الحشيش، بطبيعة الحال بمصوغات مشروعة (المنفعة الطبية، البحث الطبي، الحق في الاستهلاك الشخصي، إلخ.).
إن العالم مقبل، في السنوات المقبلة، على تحولات كبرى فيما يخص تقنين استهلاك القنب الهندي، وتوظيفه في المجالات الطبية والصناعية، والمغرب بصفته أكبر منتج لهذه النبتة وأكبر مصدر لها، لا يمكن أن يظل خارج ركب هذه التحولات.
لقد ظل المغرب متربعا على رأس أكبر منتج للحشيش على الصعيد العالمي طيلة الفترة الممتدة من 2002 إلى حدود سنة 2010، قبل أن تزيحه دولة أفغانستان من الصدارة، مؤقتا، سنة 2012، غير أنه سرعان ما استعاد صدارته، وذلك منذ مطلع سنة 2016.
المغرب في قراره هذا اقتفى خطى دول سلكت قبله هذا الدرب، ككندا والأوروغواي وألمانيا وتركيا واليونان، بتشريعها للقنب الهندي لدواعي طبية وصناعية ولأجل الاستهلاك الشخصي (الماريجوانا). بينما دول أخرى كفرنسا وأوكرانيا والأرجنتين اقتصرت قوانينها على الاستعمالات لأغراض طبية.
يتوقع على المدى المتوسط أن يلتحق بركب هذه الكوكبة دول أخرى تغريها العائدات الضريبية الناجمة عن شرعنة استعمال هذه النبتة، وما يتيحه ذلك من فرص للشغل. في الواقع، هذين العاملين السالف ذكرهما من الدوافع الرئيسية التي حثت هذه الدول في تبنيها لهذا القرار، خاصة بعد أن شاهدت ما جنته ولاية فلوريدا من عائدات ضريبية هائلة في عام واحد.
ضمن هذا السياق نشير إلى أن 29 ولاية أمريكية سبق وأن رخصت استخدام “الحشيش” لأغراض طبية وثمانية ولايات أخرى شرعت تدخينه، حققت مجتمعة خلال سنة واحدة (2016) عائدات بلغت 6,7 مليار دولار.
قياسا على التجربة الأمريكية، يمكن القول أن تقنين استعمالات هذه المادة، فقط في المجال الطبي، ستدر على المغرب عائدات ضريبية لا تقل عن 500 مليون دولار في السنة، وسيفتح هذا القانون الباب أمامه لاستقطاب نسبة مهمة من استثمارات الشركات الأمريكية والكندية والألمانية المتخصصة في استخدام القنب الهندي لأغراض علاجية وطبية، والمهتمة بتخفيض التكلفة بحصولها على هذه المادة من منبعها.
حاليا تجارة الحشيش تحتل المرتبة الثالثة في العالم بعد تجارة الأسلحة وتجارة الدواء، متقدمة بأشواط على التجارة العالمية للنفط، والمغرب يعد “رائدا” في هذا المضمار.
هذه النقطة تحديدا تعد أيضا من بين الأسباب التي دفعت المغرب إلى الإقدام على هذه الخطوة، إذ يتوقع نمو التجارة العالمية للقنب الهندي بشكل غير مسبوق في ظل توسع لائحة الدول التي ستجيز استخدامه واستهلاكه، الشيء الذي سيؤدي إلى نمو سوقه الاستهلاكية المخصصة للأغراض الطبية والصناعية، وهذا بمعزل عن الاستهلاك الشخصي، والذي يقدر ب 183 مليون متعاطي. والمغرب لكونه يستأثر ب 40٪ من السوق العالمي للقنب الهندي، و80٪ من السوق الأوروبية، نتيجة عامل القرب، طامع في الرفع من حصته من السوق، وبالتالي من مداخيله، لذا لا بد له وأن يساير المستجدات الحاصلة في المجال القانوني.
إن تجارة القنب الهندي، سواء لأغراض طبية وصناعية، أو حتى على مستوى الاستهلاك الشخصي، ستصبح، في غضون بضع سنوات مقبلة، تجارة مشروعة. هذا الوضع غير جديد، فقد سبق وأن خاضت البشرية مخاضا مماثلا مع مادة الأفيون في القرن التاسع عشر، وكذلك الشأن مع تجارة مادة التبغ في القرن العشرين.
إن التوجه العالمي لتقنين مادة القنب الهندي لأغراض طبية هدفه واضح، وهو أن يصبح للقنب الهندي قيمة تداولية، يجوز المتجارة به على الصعيد الدولي، لذلك من المتوقع أن تصبح أسعار هذه المادة، على المدى المتوسط، خاضعة لتقلبات البورصات العالمية؛ إن القنب الهندي، والحشيش بهذه الصفة خاصة، سيتحول إلى سلاح في يد المغرب، يساوم به أطرافا عديدة، وبحكم كونه أكبر منتج له سيكون أمام المغرب فرصة ليتحول إلى رقم صعب يتحكم في سقف أسعارها عبر الرفع أو التخفيض من الإنتاج… ستتحول نبتة القنب الهندي، والحشيش بعد استخلاصه منها، إلى مادة حيوية واستراتيجية لا تقل أهمية عن مادة الفوسفاط، وربما تفوق مداخيلها عائدات هذه الأخيرة.
حاليا، وفق تقديرات الأمم المتحدة، تدر تجارة مخدر الحشيش على المغرب مداخيل تقدر ب 23 مليار دولار، لا يصل منها للمزارعين سوى 214 مليون دولار، نجد من ضمنها 12 مليار دولار مداخيل يحققها من الأسواق الأوروبية.
أسئلة كثيرة تثار ضمن هذا السياق: ما مصير هذه الأموال؟ من يستأثر بها؟ هل جميعها يتم إدخالها لأرض الوطن؟ كيف يتم إعادة ضخها في الاقتصاد الوطني؟
البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة تمر من خلال تحديد طبيعة العلاقة التي تربط بين الدولة وأباطرة تجار المخدرات؟
يصعب وصف طبيعة هذه العلاقة، لكنها قابلة للتشبيه. الوضع شبيه بالعلاقة التي كانت تربط الدولة المغربية بقراصنة مدينة سلا، والذي كان المورسكيون الهورناشوس يشكلون عمودهم الفقري، لقد كانت الدولة المغربية تسمح للقراصنة بمزاولة أنشطتهم انطلاقا من ترابها في مقابل أن تحصل على جزء من المداخيل.
رسميا لا يوجد اليوم أي شكل من أشكال التعاقد، أو أية علاقة كيفما كان نوعها، معلن عنها، تربط الدولة المغربية بأباطرة تجار المخدرات. هذا على المستوى الرسمي، لكن على أرض الواقع الطرفان تجمعهما مصالح نفعية متبادلة. في العهد السابق، كان يسود تفاهم ضمني بين الدولة، في شخص وزيرها القوي آنذاك، إدريس البصري، وتجار المخدرات، بموجبه تغض الدولة بشكل نسبي عن أنشطتهم التهريبية، بدليل أنها ظلت على علم بطبيعة أنشطتهم، دون أن تكلف نفسها يوما لتسأل عن مصدر ثرواتهم، بل وتركت البعض منهم ليصل إلى رئاسة البلديات وإلى قبة البرلمان، لكن في المقابل يتعين عليهم ضخ الجزء الأكبر من العائدات في الاقتصاد الوطني في قطاع العقار والبناء، وخلق معامل النسيج وشركات النقل وأخرى للاستيراد والتصدير، إلخ. وشريطة أن يخبر الوزير القوي سلفا بكل تحرك يقومون به.
لقد ساعدت عائدات “الحشيش” المغرب من تجاوز الأزمة التي أصابت اقتصاده خلال حرب الخليج الثانية، كما لعبت دورا بارزا في الحفاظ على استقرار عملته الوطنية، وكلما أصابت الدولة ضائقة مالية خانقة، إلا وحرك المرحوم إدريس البصري هاتفه ليأمر أباطرة المخدرات بضخ المزيد من الأموال في الاقتصاد الوطني، أو تقديم “هبات” بشكل مباشر لخزينة الدولة. وبين الفينة والأخرى يتم اعتقال البعض منهم والحجز على جزء من ممتلكاتهم، لتردع البقية، وتبقيهم تحت رحمة “سيفها”. ولازالت السلطات المغربية إلى الآن تعلن بين الفينة والأخرى عن إحباط محاولات تهريب مخدر الحشيش، يذهب فيها الأسماك الصغيرة، بينما الحيتان الكبيرة تظل بمنأى عن أية متابعة، إلا في حالة خرقهم للتفاهم الضمني ولسقف الحدود التي لا يمكنهم تجاوزها.
فوزير الداخلية الأسبق، إدريس البصري، لم يتحرك ضدهم في حملة للتطهير، إلا بعد أن تم خرق الاتفاق. لقد شعر الوزير القوي بالإحراج أمام شركاء المغرب الأوروبيين، حينما واجهوه بالأدلة والبراهين عن توسع نشاط المهربين في حوض البحر الأبيض المتوسط، ووصول الزوارق السريعة للمدعو “حميدو الديب” الشواطئ الإيطالية، بل وحتى اليونانية، وهو ما لم يكن على علم به.
مشروع القانون هذا في حالة إصداره من شأنه أن يحدث تغييرات جوهرية في طبيعة هذه العلاقة القائمة بين الطرفين. الدولة لم تعد مقتنعة بجدوى هذه العلاقة، وتريد أن تضخ المزيد من الأرباح في خزينتها، وهذا لا يتأتى لها إلا بفرض سيطرتها ومراقبتها لمختلف المراحل التي تمر منها نبتة القنب الهندي، وهذا ما يتيحه لها بالضبط مشروع القانون. هل ستقطف الدولة الرؤوس التي أينعت من تجار المخدرات؟ هل دنت ساعة التخلص منهم؟ الجواب في عهدة المستقبل المنظور.
سنكتشف التوجهات الحقيقية لإرادة الدولة في تدبيرها لهذا الملف من خلال قراءة في مضامين مشروع هذا القانون، وهو ما سيشكل موضوع المقال المقبل.
المصدر : https://alwadih24.com/?p=8093
فكريمنذ 3 سنوات
تقنين استعمالات القنب الهندي قد يعود بالنفع على إقتصاد الدولة غير أنه لن يغير شئ من وضعية المزارعين ويضيق الخناق على تجار هده المادة أما عن العلاقة بين التجار والدولة فهي قائمة فقط ستخرج من السر إلى العلن فلطالما اعتبرت هده المادة بترول المغرب