مغرب الجبناء ومغرب الكسلاء: من الضحية ومن الجلاد؟

الواضح24
2023-01-21T20:46:56+00:00
كُتّاب وآراء
الواضح2421 يناير 2023آخر تحديث : السبت 21 يناير 2023 - 8:46 مساءً
مغرب الجبناء ومغرب الكسلاء: من الضحية ومن الجلاد؟
إبراهيم المراكشي: أستاذ جامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بطنجة

كيف يمكن التقليص من الفقر والحد من الفوارق المجتمعية في مغرب، لا يمر فيه يوم دون أن تتسع الهوة بين أغنياءه وفقرائه. رغم المجهودات الجبارة المبذولة من لدن الدولة، والمبادرات العديدة التي قامت بتنزيلها، فإن كفتي ميزان العدل بين مختلف شرائحه لا تستعيد توازنها المفقود والمنشود دائما. ليس المقام هنا لمناقشة أسباب فشل تلك المبادرات، وإنما النظر في الفقر من زاوية مختلفة، تتعلق بالانتاجية.

إن ميزان العدل يواصل اختلال الأثقال أو الأوزان تقدمه. فكل يوم يتم إثقال الفقراء بمزيد من الحرمان والتضخم وارتفاع الأسعار والديون، إلخ. وكلما أُثقلت كفة ميزان الفقراء إلا وارتفعت كفة الأغنياء. ففي المغرب أثرى الأغنياء لا يزدادون غنى إلا على حساب الفقراء وتفقيرهم، على عكس الأنظمة الغربية الديمقراطية، حيث الغنى لا يتم بامتصاص دم الفقير، وباستغلال فقره أبشع استغلال، وإنما له أدواته المشروعة وسبله القانونية. لماذا؟

لأن تلك المجتمعات المتقدمة تعاقدت طبقاتها اجتماعيا، وتوافقت على توزيع نسبي للثروة. صحيح أن المنظومة التي شيدتها على الأساس لا تتيح لجميع الفقراء الخروج من دائرة الفقر، لكنها تفتح قنوات لذلك من خلال التعليم وضمان تكافؤ الفرص، وفي نفس الوقت تضمن جملة من الآليات التي تصون حقوق الجميع بشكل متكافئ. هذا التعاقد ليس وحيا منزلا من السماء، وإنما من صنع البشر، ونتيجة لتدافعهم وتفاعلهم فيما بينهم، بعد أن قدموا تضحيات وخاضوا صراعات قبل أن تَوصُلهم إلى تعاقد مرن قابل للتعديل كلما اقتضت الحاجة والضرورة إلى ذلك، إما بشكل سلمي هادئ، وإما على شكل حراك مجتمعي تدافعي، كحركة السترة الصفراء في فرنسا على سبيل المثال، لا الحصر. مثل هذا الحركات مخرجاتها في نهاية المطاف تكون عبارة عن قرارات تحسن من وضعية الطبقة الفقيرة والطبقات الهشىة، لكن دون الإضرار بمصالح الطبقة الغنية. إن الإصلاحات المترتبة عن مثل هذه الحركات النضالية ما كان أن يكتب لها النجاح لولا حدوث توافقات بين الطبقة الغنية والطبقات الهشة، هدفها الرفع من الإنتاجية.

إن هذا المصطلح، أي الإنتاجية، هو المفتاح المنشود من طرف الأمم، وأي تقدم رهين بذلك. فالرفع من الإنتاجية، أي الناتج الوطني الخام، هو الذي يشجع الدولة على اتخاذ جملة من التدابير الرامية إلى تحسين الوضعية الاجتماعية لهذه الفئات من خلال تحسين جودة خدمات التعليم والصحة والرفع من الأجور؛ أي أن الفقراء لا يحصلون على هدايا مجانية، وإنما استحقاقا ونتيجة جهدهم وحيويتهم داخل المجتمع، ومساهمتهم في الرفع من الإنتاجية. في المجتمعات الغربية عليك أن تشتغل بشكل جدي لتحصل على حصتك أو نصيبك من التدابير الرامية إلى التخفيف من وطأة الفقر. فكل طرف في التعاقد يؤدي دوره. في الجوهر، يتعلق الأمر بعملية تبادلية نفعية بين أغنياء المجتمع وفقراءه، ذلك أن الأغنياء يقدمون المال والفقراء سواعدهم، أي مجهودهم العضلي؛ بينما في الدول التي ماتزال تشق طريقها نحو الديمقراطية، الفئات الهشة تطالب بتحسين أوضاعها، كالرفع من كتلة الأجور، دون أن تساهم في الرفع من الانتاجية، وفي أفضل الحالات بمساهمة ضعيفة، بل ما يتيح لهم سوق الشغل من فرص لايسمح لهم سوى المساهمة بشكل محدود في ذلك. وبالتالي فتحسين وضعيتهم الاجتماعية يكون حسب مساهمتهم في انتاجية البلاد. إن الدولة الحديثة لا تمنح أي شيء هكذا دون مقابل، فهي تتعامل مع المواطن بمبدأ الإستحقاق، ومن لم يتجاوب يلفظه على الهامش وينبذ، ويكون سقفه وملجأه الشارع.

إن الوضع الاجتماعي في المغرب يتطور ببطء، سواء في الأجور أو في الخدمات الصحية والتعليمية، لأن مردودية المجتمع متواضعة، وإنتاجيته ضعيفة. وهذه مسؤولية الجميع، فلا الطبقة الغنية تملك روح المغامرة، إذ تفضل الاستثمار في المجالات السهلة التي تضمن لها الكسب والربح السريع على المدى القصير، وبالتالي لا تتيح للفقراء سوى امكانية الظفر بفرص للشغل “قاسية” في الأجر وفي شروط وظروف الاشتغال، تجعلهم غير متحمسين للتضحية، بل وكسلاء في العمل، بأقل جهد. هذا على العموم هو الغالب السائد، وأما الاستثناءات فلا يقاس عليها. الفقير وإن أتعب نفسه وأرهقها ففي أعمال هامشية لا تساعد على الرفع من الانتاجية، فهو يرهق نفسه يوميا في أعمال بالكاد تسد رمقه وجوع عائلته وتبقيهم على قيد الحياة، وهو في ذلك مكره مجبور، لا يملك أية بدائل. لماذا؟ معضلة المغرب أن لديه أغنياء في الاستثمار هم جبناء، وفقراء، في العمل هم كسلاء! هذه هي الحقيقة المرة. الأغنياء لا يغامرون بالاستثمار في المجالات ذات القيمة المضافة الكبيرة، والفقراء حينما تتيح لهم فرصة عمل فمردوديتهم عموما تكون ضعيفة، لأن فرص الشغل المتاحة هي بدورها فقيرة، ولأن الثقة منعدمة بين الطرفين والعلاقة تطبعها الاستغلال من طرف وسوء نية من الطرف الآخر.

المسألة تتعلق بدرجة وعي المواطن ومدى حبه للانتماء للجماعة. المواطن الصيني على سبيل المثال يمنح لمشغله يوميا ساعة عمل إضافية مجانا، لأنه يدرك ما الذي يعنيه الرفع من الإنتاجية، ومدى انعكاس ذلك إيجابيا عليه وعلى أسرته، وعلى المجتمع ككل. وهذه المسألة تعد مسألة تربوية، أي التربية على جملة من القيم. وهذا ما تربى عليه المواطن الصيني بفضل ايجابيات “الثورة الثقافية” الصينية، التي كانت لها أيضا سلبياتها.

المثال السالف الذكر، يعكس لنا نموذج المواطن الواعي بأهمية الرفع من الإنتاجية، لأنه يدرك انعكاس ذلك على رفاهية المجتمع. في هذه الحالة المواطن لا يفكر فقط في نفسه، وإنما في مصلحة الجماعة، التي هي، بطبيعة الحال، جزء من مصلحته الشخصية أيضا.

في العمل، آخر شيء يفكر فيه الفقراء بالمغرب هي مصلحة الوطن. الوطن مُغيب سواء من طرف الأغنياء أو من طرف الفقراء، جميعهم يتساوون عند أعتاب هذه النقطة.

إن طبيعة العلاقة بين الغني والفقير والمتسمة بانعدام الثقة بين الطرفين، تساعد الأقلية المتحكمة في الحفاظ على هيمنتها على المجتمع وتقوية تحكمها بالسلطة، إذ تتيح لها مراكمة الثروات، وضمان عدم مزاحمة الأغنياء في مجالات استثماراتها. في هذا الإطار، علينا أن نوضح مسألة مهمة، وهي ضرورة التمييز بين الطبقة الغنية والأقلية المتحكمة، والتي هي تجمع لبضع عائلات؛ فالأولى في خدمة الثانية، وليس العكس، فهي، على سبيل المثال، تضع مدخراتها في أبناك هذه الأقلية فتستثمرها محققة بذلك عائدات فلكية.

المنظومة المؤسساتية التي يقوم عليها المغرب تزكي الفوارق المجتمعية، بل وتعد من أسسها القوامة. فمثلا، المنظومة المدرسية تزكي الفوارق بين من يدرس في مدارس عمومية، وبين من يتابع دراسته في مدارس خصوصية، والمنظومة الصحية في جودتها تفرق بين من يملك المال ومن يفتقده، إذ نجد حتى في المستشفيات العمومية سلوكيات سلبية تضرب المجانية وفي الصميم، خاصة ظاهرة “النوار” التي تشمل مختلف الخدمات الطبية. حتى نظامنا الانتخابي قائم على أساس الفوارق المجتمعية. في الميدان ليس بمقدور أحد أن يخوض الانتخابات إن لم يكن لديه المال. الانتخابات جد مكلفة في المغرب، وهي مصدر فسادها؛ باختصار شديد، القاعدة الذهبية التي تقوم عليها الانتخابات هي: الفقراء يصوتون، والأغنياء يفوزون! وكأن الأغنياء يخاطبون الفقراء بقولهم: “لكم الأصوات، ولنا المقاعد!”. وفعلا، الفقراء في المغرب ظاهرة صوتية!

إن نجاح المغرب في التقليص من الفوارق الطبقية يمر عبر الرفع من الانتاجية، ومن أجل ذلك لابد وأن يتوفر لدى أصحاب القرار الإرادة الفعلية لتحقيق ذلك. المغرب لن ينجح في هذا المسار بمعزل عن “مواطن” على وعي تام بأهميته في ذلك، وهذه مسألة تربوية أولا وقبل أي شيء آخر، حتى يكون لدينا “مواطن” فاعل في انتاجية بلده، وفي تنميته. نحن في أمس الحاجة للانتقال من “المواطن” إلى المواطن. لكن ما الفرق بين المصطلحين؟ الفرق بسيط والفارق بينهما كبير. الثاني يتمتع المواطن بكامل مواطنته، أما في الحالة الأولى فلا يحمل “المواطن” من صفات المواطنة سوى الإسم.

حتى تكون مساهمة الفقراء فعالة في الانتاجبة ينبغي أن نضع بين أيديهم مفتاحين، وهما التعليم والصحة.

المفتاح الأول عموده الفقري رجل التعليم، والمفتاح الثاني ركيزته الأساسية هي الأطر الطبية. الأول يعالج أمراض المغاربة التربوية، ويزرع فيهم القيم الحميدة، والثاني يعالج أمراضهم الجسدية والنفسية. والحق، إن كانت للدولة، ومن خلفها الأقلية المتحكمة، إرادة حقيقية للإصلاح وللتغيير الإيجابي فينبغي عليها أن ترفع من الوعي الجمعي للمغاربة، أغنياء وفقراء، والمدخل إلى ذلك هو التعليم والصحة. على الدولة أن تستعيد ثقة “المواطن” فيها، وأولى الخطوات في هذا الباب اهتمام الدولة بالوضعية الإعتبارية والمادية لكل من أطره الطبية وأطره التربوية العاملة بالقطاع العام.

لا يمكن للمغرب أن يرفع من إنتاجيته بدون أطباء القطاع العام ورجال التعليم أكفاء، وبدونهم سيظل الفقراء في المغرب “فقراء” في وعيهم، و”فقراء” أيضا في صحتهم. ومن هنا يتضح لنا لم التعليم والصحة في القطاع العام يراوحان مكانهما، دون تسجيل أي تقدم ملحوظ.

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة