المراكشي يكتب: “طريق سجلماسة”: الطريق التجاري المغربي نحو بلدان غرب افريقيا

الواضح24
كُتّاب وآراء
الواضح2417 فبراير 2023آخر تحديث : الجمعة 17 فبراير 2023 - 3:32 مساءً
المراكشي يكتب: “طريق سجلماسة”: الطريق التجاري المغربي نحو بلدان غرب افريقيا
إبراهيم المراكشي: أستاذ جامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بطنجة

بسبب موقعه الجغرافي الاستراتيجي ظل المغرب على امتداد تاريخه محط أطماع وتنافس القوى العالمية والإقليمية، من الرومان إلى الوندال، إلى العباسيين وأموي الأندلس، مرورا بالبرتغاليين والاسبانيين والعثمانيين، ووصولا إلى القوى الأوربية الاستعمارية منذ مطلع القرن التاسع عشر؛ كان خلالها المغرب تارة يحافظ على استقلاله، وتارة أخرى يخضع لسيطرة قوة أجنبية، لكن سرعان ما ينتفض ضدها، ويسترجع سيادته واستقلاله، ويستعيد قراره؛ وتارة يتخذ موقف المدافع عن أراضيه ووحدتها، وتارة أخرى يبادر إلى الهجوم، ويرد الصاع صاعين حينما يكون قويا.

سياسيا أراضي المغرب التاريخية تتمدد وتتقلص حسب مدى ضعف أو قوة المركز (المخزن). من الخطأ حصر المخزن المغربي في 12 قرنا ونيف، فعمره بعمر ساكنة بلاد “المور”، أي المغرب، وقدم المكون الأمازيغي وتاريخه المجيد. أما دينيا وروحيا وجدانيا وأيضا تجاريا فتلك مسألة أخرى، إذ ظلت أراضيه التاريخية، الممتدة إلى عمق غرب افريقيا، على اتصال وتواصل مع تراب “الدولة الأم” إن على مستوى بيعة السلاطين أو على المستوى الشعبي.

ارتباطا بهذه النقطة الأخيرة، نجد العديد من السلاطين المغاربة الذين تعاقبوا على حكم البلاد كانوا على وعي تام بأهمية توسيع مجال ظهيرهم الخلفي والأمامي لحكمهم، ليس فقط من زاوية اقتصادية وتجارية، وإنما أيضا من زاوية أمنية، إذ شكل ذلك عمق استراتيجي يساعد المغرب في تشكيل دفاع متقدم لصد تحرشات الأعداء وهجماتهم، سواء من جهة الشمال (شبه الجزيرة الإيبيرية) أو من جهة الجنوب، ومن الشرق تحديدا.
القوى الإقليمية والدولية تعي جيدا هذا المعطى، وتدرك مدى الخطورة التي يشكلها استعادة المغرب السيطرة والتحكم بظهيره الخلفي التاريخي على مصالحهم. ولهذا حرصت بعض هذه القوى على خلق مشاكل حدودية له، واقتطاع صحراءه الشرقية وضمها لدولة الجزائر الفتية، ومحاولة بتر صحراءه الجنوبية، كل ذلك قصد عزل المغرب عن عمقه الإفريقي، وإحكام الطوق عليه.

بيد أن الرؤية وطريقة التعامل مع هذه المسألة تباينت بين الأب والابن، واختلفت بين عهدين. فعهد الملك الراحل الحسن الثاني كان عهدا سياسيا، طغى عليه الصراعات السياسية، وحتى في تعامل المغرب مع قضاياه الدولية ظل يعالج الملفات بطريقة براغماتية سياسية (مثلا قبوله الجلوس على طاولة المفاوضات مع جبهة البوليساريو). أما عهد الملك محمد السادس فمختلف تماما، إذ لم يتم الفصل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي، بل اعتبر الأول مدخل للثاني، وجعل المغرب هذا الأخير، أي الاقتصاد، في خدمة أهدافه السياسية، إذ أصبح يتم معالجة الملفات السياسية على الصعيد الدولي بنظرة برغماتية اقتصادية. فمبكرا أدرك رجالات “العهد الجديد” ومستشاريه أهمية استعادة المغرب لظهيره الخلفي، وأن المغرب لن يكون قويا بدونه. وهذه الاستعادة لن تكون سوى ناعمة وبأهداف اقتصادية، وقبل ذلك ثقافية وروحية، وذلك بإقامة شراكات استراتيجية بعيدة المدى رابح-رابح؛ وأما زمن السيطرة العسكرية فقد ولى، ولنا في الخروج الأمربكي المباشر من العراق أبرز مثال، وحديثا الخروج العسكري الفرنسي من بعض دول افريقيا جنوب الصحراء (مالي، بوركينا فاسو، افريقيا الوسطى).

لكن من أجل استعادة المغرب لظهيره الخلفي الإفريقي من اللازم اللازب أن يؤسس لطريق آمن يصله بجميع دول غرب افريقيا الواقعة وراء نهر السينغال. في الواقع، المغرب يتحرك في افريقيا بخطوات مدروسة، وجميع تحركاته في القارة السمراء تنم على أنه بصدد شق طريق تجاري خاص به في صمت وفي تؤدة.

في هذا الإطار يمكن إدراج الزيارات والجولات المتكررة التي قام بها العاهل المغربي محمد السادس مبكرا لدول غرب افريقيا، والتي توسعت دائرتها لتشمل، في إطار استراتيجية متكاملة المدى، حتى دول شرق افريقيا (إثيوبيا، كينيا وجنوب السودان). في المجموع، قام ملك المغرب ب 50 زيارة دولة إلى 30 بلد افريقي في ظرف عشرون سنة، أبرم خلالها العاهل المغربي محمد السادس أكثر من 1000 اتفاقية. هذه الزيارات لم تكن فقط زيارات ذات صبغة سياسية، وإنما أيضا اقتصادية فتحت المجال أمام الرساميل المغربية للاستثمار في قطاعات متنوعة (الاتصالات، الطيران، الأبناك، التأمينات، العقار والبناء، المناجم، الفلاحة، النقل، إلخ.)، حتى بات المغرب المستثمر الأول في غرب افريقيا، والثاني في القارة السمراء بعد الصين.

هذا الاختراق الناعم لأسواق غرب افريقيا، رغم كل ما يصادف من عراقيل، مايزال في مراحله الأولى، وما كان ليتم لولا تشييد المغرب لطريق تجاري آمن خاص به، والحق أن هذا الطريق مازال في طور الانجاز، وإن كانت بعض معالمه بدأت تتشكل وتظهر لعين الثاقب المتابع لمجريات الأحداث بشكل جلي؛ غير أن المملكة المغربية بصدد انجازه وتثبيت أسسه وأركانه في صمت بعيدا عن البهرجة السياسية والتغطية الإعلامية.

يمكن تشبيهه ب “طريق الحرير” على الطريقة أو الصيغة المغربية، رغم أن المغرب كان سباقا على الصين في إدراك الأهمية الحيوية والجيو-استراتيجية لمشروع من هذا النوع في تطور اقتصاده وتعزيز مكانته كقوة اقليمية صاعدة في القارة السمراء. لا ننسى بكون افريقيا بمقدراتها وبثرواتها، وبتوسع أسواقها الاستهلاكية، تمثل مستقبلا بوصلة تأمين نمو الشركات العالمية.

الطريق الذى بصدد تشييده المغرب ما هو في الواقع سوى مجرد إحياء للطريق القديم للقوافل التجارية التي كانت تربط ما بين القبائل والممالك الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء ومدن المغرب كسجلماسة وتافيلات وتندوف.

إن المغرب يشتغل في صمت لبعث روح هذا الطريق التجاري من مرقده، والذي دخل في سبات عميق منذ سيطرة المستعمرين الفرنسي والانجليزي على المنطقة نهاية القرن الثامن عشر، بعد أن صمد طويلا في وجه المحاولات الاستعمارية لتغيير مجراه، وذلك منذ أن وطأت أقدام البرتغاليين سواحل غرب افريقيا أواخر القرن السادس عشر. ومنذ ما ينيف عن القرنين توقف طريق القوافل، ومعه انقطع أي شكل من أشكال التواصل التجاري للمغرب مع القارة السمراء، إلى حدود سنة 1956.

إن الطريق التجاري المغرب-غرب افريقيا هو مطلب الأفارقة أيضا. فمثلا، حلم انجاز خط طريق سيار ينطلق من مدينة طنجة، شمال المغرب، ويصل إلى العاصمة النيجيرية لاغوس، مرورا بعدد من الدول الإفريقية، كان قد عبر عنه عدد من النيجيريين، وفي مقدمتهم الرئيس النيجيري أثناء زيارة العاهل المغربي لنيجيريا في شهر دجنبر من سنة 2016.

المغرب في هذا الإطار آثر الاشتغال في صمت حول هذا الهدف، إذ ركز في مرحلة أولى، وطيلة العشرين سنة الفارطة، على تقوية شبكته الخاصة بالبنية التحتية الطرقية الداخلية، من طرق سيارة وطرق سريعة (مزدوجة)، تربط أقصى شمال المغرب بجنوبه، وشرقه بغربه. فعلى سبيل المثال، خلال السنة الفارطة (2022) تم التركيز على ربط المدن الصغيرة الفرعية بالمدن الاقتصادية الكبرى للمملكة، إذ تم تثليث الطريق السيار الدار البيضاء-برشيد على طول 20 كلم، وتثليث الطريق السيار المداري للدار البيضاء على طول 30 كلم، بالإضافة إلى الطريق السيار تيط مليل-برشيد على طول 30 كلم، والطريق السيار جرسيف-الناظور على طول 104 كلم.
كما تم ربط أبرز مدن الصحراء بشبكة الطرق السيارة عبر الطريق السريع (المزدوج) الذي يربط بين مدينة تزنيت بمدن كلميم-العيون-بوجدور-الداخلة، وقد تقرر تمديده هذه السنة (2023) إلى معبر الكركرات الاستراتيجي.
ويتوقع خلال هذه السنة وإلى حدود منتصف السنة المقبلة أن تنطلق أشغال بناء طرق سيارة جديدة: الطريق السيار القاري الرباط-الدار البيضاء على طول 60 كلم، والطريق السيار مراكش-فاس/مكناس عبر بني ملال على طول حوالي 180 كلم، والطريق السيار الرابط بين ميناء آسفي وشبكة الطرق السيارة على طول 18 كلم.
هذه المجهودات توجت باحتلال المغرب، على المستوى القاري، المرتبة الثانية، بعد جنوب إفريقيا، بالربط بالطرق السيارة بمعدل 1800 كلم. في هذا الإطار، يبدو أن المغرب قد شارف على الانتهاء من المرحلة الأولى، ليشرع في المرحلة الثانية، وتتعلق بتدعيم شبكة الطرق السيارة والطرق السريعة ببلدان غرب افريقيا، وقد يشكل أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب المدخل الرئيسي لتعزيز شبكة الطرق بهاته البلدان.

هذا بالإضافة إلى كون المغرب ركز أيضا على تحديث شبكة السكك الحديدية وتجديد أسطول القطارات. فمؤخرا جرى تمديد خط قطار الفائق السرعة الرابط بين مدينتي طنجة و الدار البيضاء، مرورا بمدن القنيطرة والرباط، ليصل إلى مدينة مراكش، في خطة طموحة لإيصال “التي جي في” إلى مدينة أكادير، والتي تعد البوابة نحو الصحراء.

نعتقد جازمين بأنه آن الأوان أن يخرج المغرب مشروعه الخاص بطريقه التجاري نحو افريقيا للعلن، دون توجس من ردود أفعال الخصوم والمنافسين (فرنسا، الجزائر، جنوب افريقيا).

إنه “طريق سجلماسة” المغربي نحو إفريقيا! مع التنبيه إلى ان هذا التوصيف من اقتراحنا، ولا يحمل أية صفة رسمية.

إن مغرب اليوم يختلف عن مغرب سنة 2016. مغرب اليوم جدد من تحالفاته، وأقامها على أسس استراتيجية متينة وشراكات جديدة، مكنته من أن يتحول إلى رقم صعب على الصعيد القاري وإلى قوة اقليمية صاعدة، رغم مشاكله الداخلية.

إن “طريق سجلماسة”، الذي نقترح تسميته، ليس مجرد حصى وأسفلت. بل طريق يقلص المسافات وتعبر من خلاله السلع والبضائع المغربية بانسيابية نحو الأسواق الأفريقية، وكذا الاستثمارات المغربية، وتندمج داخل بوتقته جميع المبادرات المغربية والمشاريع واستراتيجيات التعاون الموجهة نحو البلدان الإفريقية، سواء تعلق الأمر بالتعاون الديبلوماسي والأمني-العسكري (مساعدات عسكرية، تكوينات وتدريبات عسكرية لفائدة ضباط أفارقة، تنسيق أمني واستخباراتي، الاستعلام وتبادل المعلومات والمعطيات الأمنية، إلخ.)، أو بالتعاون الديني والروحي (تكوين الأئمة الأفارقة وبناء واصلاح المساجد والمعاهد الدينية، الزوايا والطرق، إلخ.)، أو بالتعاون الثقافي والإعلامي (منح للطلبة الأفارقة، التكوين، المهرجانات الثقافية والفنية، معارض وفنون، إلخ.)، أو بالتعاون الفلاحي (اختراق ناعم لشركات فلاحية مغربية، المساعدات الفنية: بذور وأسمدة، تقنية الأمطار الاصطناعية، إلخ.)، أو بالتعاون الاقتصادي (عقود استغلال مناجم، اتفاقيات التجارة الحرة: منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، مشروع أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، الاستثمار في المجالات الحيوية: الاتصالات والتأمينات والأبناك، وغيرها من المجالات، إلخ.).

باختصار، “طريق سجلماسة” المغربي سيشكل عامل استقرا سياسي-أمني ونمو اقتصادي لدول غرب إفريقيا، وسيمكن من خلق تعاون وثيق مع 15 دولة على كافة الصعد. فهل سيتمكن المغرب من ربط مستقبل 440 مليون مواطن افريقي ب “طريق سجلماسة” التجاري؟

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة